كل حاجة بالمعقول حلوة. الإفراط سيئ، والإهمال قبيح، وكل ما زاد على الحد إما انقلب إلى الضد، أو تحول إلى «هسهس» قاتل يمحو العقل ويدهس المنطق. ومصر ما قبل السبعينات لم تكن كافرة أو مارقة أو خارجة على الأخلاق. بل العكس هو الصحيح، كانت مصر أحلى شكلاً وموضوعاً وأعمق إيماناً وأكثر تحضراً.
وعلى الرغم من «التحضر» الذى ضرب مصر متمثلاً فى نزوح جائح من الريف إلى المدينة، واختفاء نسبة كبيرة من الأرض الزراعية تحت صبّات الأسمنت والمسلّح، ووصول الهواتف المحمولة إلى أيادى الغالبية، وتضاعف عدد السيارات لدرجة أن مصر أصبحت تعانى مشكلة تلوث الهواء وغيرها، إلا أن هذا «التحضر» لم ينعكس إيجاباً على البنيان السلوكى والثقافى، بل العكس هو الذى حدث.
حديث الساعة «فتيات التيك توك»، وهو حديث استنفر نخوات المجتمع «المتدين بطبعه» خوفاً على قيمه وقواعده من التخريب. وهو حديث لا تنافسه أحاديث أخرى. فمنظومة «شباب التوك توك» مثلاً وضرب عرض الحائط بالقوانين والأعراف والسلوكيات لم تهز شعرة لدى هذه النخوات. بعضهم يتحرش بالإناث؟ معلش شباب طايش أو محروم. معلش أكيد البنات والستات لابسين لبس خارج. معلش أصلهم مش قادرين يتجوزوا. معلش أصل الفقر يعمل أكثر من كده.
وهناك ملف التعديات على أراضى الدولة وأرصفتها ومياهها وأعمدة كهربائها وأصولها الثابتة من باصات نقل عام وأرائك على الكورنيش وحدائق عامة وغيرها، وهى ثقافة تجعل من المال العام محلاً للنهب ومرتعاً للسلب. ورغم ذلك، لم يشغل بال أحد حتى وقت قريب.
ولا يفوتنا ذكر ثقافة الإهمال وعقيدة التواكل ومعتنق «إيه المشكلة يعنى؟!»، وغيرها من المناهج الحديثة التى ابتدعناها واعتنقناها وذبنا فيها عشقاً وولهاً وإدماناً. وفى خضم كل هذا، نجد فتوى معتبرة حول «حكم الشخر الذى يصدره بعض الناس عند النزاع»، وأخرى حول استخدام «تيك توك»، وثالثة عن حكم دخول الحمام دون شبشب، ورابعة عن حكم نزول المرأة البحر ليلاً، وخامسة عن موقف من يقول صباح أو مساء الخير، وسادسة عن حكم ركوب المرأة التاكسى دون محرم، وسابعة عن حكم دراسة المرأة للهندسة والكيمياء والفيزياء (وبالمناسبة فقد جاءت الفتوى مؤكدة أنه ليس للمرأة التخصص فيما ليس من شأنها)، وسابعة عن حكم الترحم على غير المسلم، وغيرها الكثير من الأسئلة والإجابات «الفقهية» التى توضح حكم «الشرع» فى مثل هذه القضايا «المصيرية».
وللتوضيح، فإن مثل هذه الأسئلة والإجابات التى ترد على هيئة فتاوى صادرة عمن يفترض أنهم أهل علم ودين ليست حكراً على دار الإفتاء المصرية. بعضها يرد إلى الدار ومُفتيه، والبعض الآخر يرد إلى مواقع عنكبوتية لا حصر لها. وكما نعلم جميعاً، فإنه فى ظل ثورة المعلومات ووصول الإنترنت إلى الملايين، فإن طالب الفتوى ليس مجبراً على طلب رأى الدين من مصدر واحد فقط. ولكن على الأقل، وفى حال أردنا تصحيح وتطهير المسار الثقافى فى مصر، فإن القنوات «الرسمية» للفتوى وإبداء رأى الدين فى مصر عليها دور كبير ومهم. هذا الدور لا يتمثل فى الرد على الأسئلة السخيفة والخارجة عن إطار الزمان والمكان والتى تضر العقل البشرى أكثر مما تفيده فقط، ولكن دورها يحتم عليها تضمين ردودها رسائل غير مباشرة بأن الأولى أن نهتم بقضايا ومسائل تتعلق بالقرن الـ21 وليس القرن الـ12، وأن الأولى أن يشغل بال المؤمن أفكار وتساؤلات حول أسباب ما أصبحنا عليه من قذارة فى الشوارع، وفصام كامل بين مظهرنا المتدين وجوهرنا البعيد عن قواعد الأخلاق التى تقوم عليها الأديان، وسكوتنا شبه التام عن الجرائم السلوكية التى يرتكبها الذكور على حساب الإناث واعتبارهم «توليفة هرمونات مسلوبة الدماغ»، وإغراقنا الرهيب فى كل ما يتعلق بالجنس ولكن بعد تغليفه فى جلباب الدين، فظهور «صبة رجل» المرأة جنس، و«تيك توك» البنات جنس، وصوت المرأة جنس، ودبة الجزمة الكاوتش التى ترتديها المرأة جنس، وترتر العباءة السوداء المستوردة من دول أخرى جنس وهلم جرا.
والحقيقة أنه لا يكفى أبداً التحجج بأن السؤال الذى يرد إلى رجال الدين يجب أن يتم الرد عليه حتى لا يلجأ سائله إلى المواقع «المتطرفة»، فالسؤال نفسه كثيراً ما يدق ناقوس الخطر لأنه لا يعكس سوى تطرف غارق فى السطحية، وهى التوليفة التى ضربت مصر منذ سبعينات القرن الماضى، واعتنقتها الملايين باعتبارها الرجوع إلى الدين.
لكن هذا المنهج المستحدث للدين منقوص ومعيوب. فالدين ليس جنساً ودخول حمام ونزول بحر ودراسة كيمياء فقط. ومن يصر على حصره فى هذا الهراء، فهو ينال من مكانة الدين. كلمة أخيرة للزملاء فى الإعلام. المساهمة فى الترويج لهذا التوجه، والتركيز على نشر وبث ما يحقق التريند يسهم فى الوقت نفسه فى تجذير الجهل ومزيد من التمكين للخرافة والإغراق فى كل ما لا ينفع، بل يضر كل الضرر.