صارت قلوبنا مقبرته، كلما أردنا زيارته ومصافحته وتقبيل جبينه، يكفى أن نفتح نافذة القلب، ونتسلل من شغافه، ونضحك ونتسامر معه كما كنا نفعل منذ مقتبل الشباب، هكذا قلت لصديقى وأنا فى جنازة صديق العمر د. خالد مكين رئيس قسم جراحة التجميل بقصر العينى، فليست تلك المقبرة الخرساء هى التى تضم صديقنا الحبيب، الذى كان بالنسبة لنا فى معظم الأحيان أباً وشقيقاً كبيراً، فهو كالوشم فى قلوبنا جميعاً، لو لخّصنا «مكين» فى كلمة ستكون الشهامة، لم يتأخر عن أحد، خاصة الغلابة، كان موسوعياً مثقفاً، محباً للفن، وطنياً حتى النخاع، منذ أن كان طالباً، حدد تخصّص الجراحة، عشقها حتى النخاع، لخّصها فى مقولة «الجراحة تحسم»، وهو قد أحب الحسم والكشف والشفافية، كان الجميع يذاكر من كتب وملخصات مصرية، خالد مكين يعود إلى المراجع، كنا نراها مغالاة وتشدّداً فى طريقة المذاكرة، لكنه كان يكره الاستسهال، كان مؤمناً بأن الطب مهنة مقدّسة لا يصح الاستسهال والكسل والعنعنة معها، لا يصح معها النُّص نص، مهنة لا بد أن تمنحها كامل عشقك وتمام غرامك، تدرج فى سلم جراحة التجميل حتى صار أستاذاً ورئيس قسم وأيضاً رئيس جمعية جراحى التجميل المصرية، وفى المناصب الإدارية وصل إلى منصب وكيل كلية طب القاهرة، فقد كان يعتبر قصر العينى بيته الثانى وأسرته الحميمة، حتى وزارة الصحة شارك فى وضع خططها، سواء كانت مؤسسة علاجية أو تأميناً صحياً أو خلافه، وتولى مناصب متعدّدة فيها، وكان الاستشارى الموثوق به فى قضايا الطب الشرعى التى يحتاجون فيها إلى رأى الخبير المرجع، تمتع د. خالد مكين بحب كل زملائه، والأهم أن أكثر من بكى عليه بحُرقة هم الفنيون والمساعدون والممرضات والتمرجية، فقد كان عطوفاً على الجميع، خاصة البسطاء، يحل لهم كل المشكلات حتى الأسرية منها، بقلب وحب وحماس، كان يمثل لدفعة ٨٣ الجبرتى المحقق المدقق، وتوسّع هذا الاهتمام بالتأريخ والتوثيق عنده لدرجة أنه كان يكتب عن تاريخ قصر العينى، وكأنه قد شارك فى بنائه منذ كلوت بك!، ذاكرة فوتوغرافية عاشقة لتاريخ العلم، لجأت إليه عندما كنت أكتب عن الأطباء الذين صنعوا الإرهاب المتأسلم، كنت أريد معرفة تاريخ «الظواهرى»، زعيم «القاعدة»، وسيد إمام فيلسوف ومنظر التكفير، الذى تعتبر كتبه هى المراجع الأساسية لـ«داعش»، كتب لى كل التفاصيل، سنة التخرج والرسائل والقسم والنائب والأستاذ رئيس القسم حينذاك.. إلخ، الدقة كانت عنوانه، دقة تصل إلى درجة الوسوسة، والحقيقة كانت هدفه ومبتغاه، أتمنى من د. محمد الخشت، رئيس جامعة القاهرة، إطلاق اسم د. خالد مكين على إحدى القاعات الكبرى لكلية الطب، أو أحد المدرجات، على قدر محبته لهذا الصرح العظيم، لا بد أن يكون تكريمه بالقدر نفسه.