أيام ويكون لمصر رئيس منتخب فى واحدة من أكثر الانتخابات الرئاسية نزاهة والتزاماً. أيام أيضاً وتدخل مصر مرحلة جديدة من المنافسة الحادة من أجل عضوية البرلمان الأكثر أهمية فى تاريخ مصر المعاصر، البرلمان الذى يمكن أن نعتبره برلماناً تأسيسياً بحق لمصر جديدة تتقدم نحو الديمقراطية والعدل والحرية. وكل من هذه الأهداف الكبرى بحاجة إلى نواب برلمانيين يضعون مصر ومصلحتها العليا فوق أى اعتبار، ويسعون نحو ممارسة برلمانية تسمو على الإغراءات والمصالح الصغيرة.
برلمان كهذا الذى نتطلع إليه وفى ظل الصلاحيات الكبيرة التى حددها دستور 2014، وبعد سنوات أربع مرت بصعوبة شديدة وبتضحيات عالية من الجميع، يتطلب استعداداً خاصاً من كل القوى السياسية الحزبية أو تلك التى ما تزال تؤمن بالتحرك غير المنظم بين الناس، ويتطلب أيضاً وعياً أكبر من جموع المصريين، فالفرصة السانحة الآن لإعادة البناء تبدو كفرصة أخيرة للجميع، إن ضاعت ضاع معها كل شىء، وإن استقرت، وهو ما نأمله ونرجحه بقوة، شقت مصر طريقها نحو السماء. المهم أن نعى جميعاً عظم المسئولية عند الاستعداد لهذه الانتخابات الخطيرة وعند اختيار النواب الذين يؤمنون بالوطن وقيمته ويعملون لرفعته.
برلمان كهذا خطير فى مهامه وأدواره سوف يحدث الفارق المستهدف من تشريعات جديدة مكملة للدستور، ومراجعات لتشريعات موجودة بالفعل وتحتاج لتغييرات شاملة تناسب طبيعة المرحلة، فضلاً عن رقابة فعالة لأداء الحكومة تقوم على المحاسبة والمساندة، كل حسب الموقف والحالة. مثل هذه المهام التى تجمع بين المرونة فى الفعل والدقة فى الأداء تحت مظلة الحس الوطنى السليم تتطلب نواباً مقاتلين وليس نواباً براجماتيين، وهنا تبدو المعضلة الكبرى أمام مصر بأسرها، إذ كيف نضمن حُسن الاختيار لنواب البرلمان فى وقت تتقاطع فيه الحقائق مع الأكاذيب، والمبالغات مع التهوين، واللايقين مع الإفراط فى الثقة؟
شىء من الصراحة مع النفس مطلوب بقوة، فالبرلمان المقبل إن لم يعبر بصدق عن خريطة سياسية فاعلة تستند إلى شرائح اجتماعية بعرض الوطن وطوله، سوف يكون الأمر مخيباً للآمال، ودافعاً لخروج كثيرين من دائرة النظام الجديد، ومُحبذاً لقدر من العنف وباعثاً على الفوضى. وإذا كنا نعول على قدر كبير من نُضج المصريين وقدرتهم المتصاعدة على الفرز بين الغث والسمين، وبين الطالح والصالح، فإننا نعول أيضاً وبقدر أعلى على النخبة السياسية، لا سيما هؤلاء الذين يقودون أحزاباً سياسية يفترض أنها تعى الدرس جيداً وتعى حجم المسئولية الُملقاة على عاتقها. والمقصود هنا هى الأحزاب ذات الشعبية النسبية فى الشارع، وليست الأحزاب التى يصفها أصحابها بكونها تحت التأسيس، وهى فى الأصل مجرد أحزاب كرتونية وشخصية، ولا تمثل شيئاً سوى يافطة بائسة لا تجذب أحداً. لكن الصراحة تدعونا أيضاً إلى تذكير أنفسنا بأنه حتى الأحزاب ذات الشعبية النسبية فهى ما زالت واقعة تحت تأثير صدمة انتفاضتى 25 يناير و30 يونيو، وما زالت تعانى من الأمراض نفسها التى عانت منها طوال حكم الرئيس الأسبق مبارك، وما زالت أيضاً غير قادرة على توظيف البيئة السياسية الجديدة التى تعيشها مصر الآن، وما تتيحه من فرص كبيرة من أهمها؛ انتفاء القيود على حركة الأحزاب من النشأة ومروراً بالتأسيس ونهاية بالانتشار بين الناس والمنافسة على السلطة.
وباختصار، فحتى هذه الأحزاب ليست مؤهلة لمهام بناء مصر جديدة. وإزاء هذه المعضلة تبدو الحلول إما فى إعطاء جرعة إنعاش لهذه الأحزاب عبر سياسة تمييزية تمنحها بعض الإمكانيات حتى تستطيع أن تلحق بالبرلمان المقبل، وإما ترك الأمر على عواهنه وليأتى البرلمان على أى نحو كان. والمطالبون بمثل هذا التمييز يقدمون وجهة نظر ذات وجاهة قوامها أن الدستور يقوم أساساً على نظام التعددية الحزبية، والسؤال هنا: ما حجم التمييز الإيجابى الذى يجب أن نوفره لمثل هذه الأحزاب قليلة الحيلة وضعيفة التأثير؟
ربما يجيب الحوار الدائر الآن بين الأحزاب وبين القائمين على وضع قانون الانتخابات البرلمانية حول النسبة التى يجب أن تُمنح للأحزاب كقوائم، والنسبة الأخرى للفردى، فالأحزاب تطمع فى خمسين بالمائة للقوائم الحزبية والخمسين الأخرى للفردى، وهنا يتبادر إلى الذهن تساؤل يتعلق بالعدالة والمنطق فى مثل هذه المطالب، فالأحزاب ذات الشعبية النسبية لا يزيد عدد أعضائها على 2 مليون عضو، فهل من العدل أن نمنح هؤلاء الحزبيين نصف عدد البرلمان والنصف الآخر يُمنح لباقى الشعب المصرى؟ بالقطع لا، وفى اعتقادى أن نسبة 20 إلى 25 بالمائة للقوائم هى نسبة عادلة للغاية وكريمة جداً، والأمل أن تُحسن الأحزاب استغلالها من أجل أن تدعم نفسها كقوة عمل سياسى منظم وتقتنص نسبة كبيرة من مقاعد البرلمان المقبل.
صحيح أن البعض يتخوف من أن غالبية البرلمان للفردى سوف يمنح قبلة الحياة للإخوان وأعضاء الحزب الوطنى المنحل للتسرب إلى برلمان الثورة، ولكنه فى اعتقادى تخوف لا أساس له، وبقدر ما فى هذا التخوف من مبالغة شديدة، بقدر ما فيه من وصاية على اختيارات الشعب وتلميح غير مباشر بأن الشعب لم يتعلم بعد كيف يُحسن اختيار نوابه. ناهيك عن أن أعضاء الوطنى المنحل يواجهون ليل نهار دعاية مضادة من كل الاتجاهات، وأعضاء الإخوان قد فقدوا تعاطف المجتمع معهم ولم يبق لهم سوى بقايا تحالف وهمى يعيش أوهاماً افتراضية.
ولهؤلاء المبالغين فى تخوفاتهم والمنادين بمزايا أكبر لا يستحقونها نقول إن كان ما يقرب من 25 مليون مصرى شاركوا فى الانتخابات الرئاسية بإرادتهم الحرة، فهل يُعقل أن يُنظر إليهم باعتبارهم قُصراً من الناحية السياسية؟ وهل يُعقل أن نفكر بطريقة تعقيم المجتمع بمنعه أصلاً من الاختيار والتدريب على بناء ديمقراطية عبر المشاركة والتعلم من الخطأ فى الممارسة بقدر التعلم من التقدير السليم؟ وإذا كانت الأحزاب تتخوف من عدم قدرتها على المنافسة وعلى اقتناص الفرصة، فلتترك الساحة لأحزاب غيرها، أو لتفكر بطريقة عملية وإيجابية فى الوقت نفسه، كالدخول فى تحالفات حقيقية مع القوى والأحزاب الأخرى لكى تحصل على ثقة الشعب وتتسيد البرلمان. مصر يا سادة فى طور التغيير، ومن ليس لديه الكفاءة فى تطوير نفسه، فهناك آخرون قادرون وسوف ينجحون أيضاً، ومن يخشى المواجهة والمبادأة فليرحل فى صمت.