قصة قصيرة بائسة!!
■ ارتفعت أصوات صاخبة ممتلئة بالفرحة فى المقهى الذى يصطف زبائنه على الرصيف المقابل.. يبدو أن الأهلى قد أحرز هدفاً ثانياً.. ليس من الممتع أن تكون مجبراً على عدم مشاهدة مباراة فريقك المفضل بسبب زيارة ضرورية إلى ورشة إصلاح السيارات!!
- هنحتاج سير جديد وجوانات الموتور كلها هتتغير يا دكتور! قالها الأسطى «زين» بثقة، بعد أن رفع رأسه من موتور سيارتى الصغيرة.. نظرت إليه بحيرة المريض الذى لا يفهم طبيبه، وهو يشرح له مرضه باللاتينية الفصحى!!
- عظيم.. وماذا يمكننى أن أفعل؟
أعانى بالفعل من مشكلة كبيرة فى التعامل مع السيارات.. الشىء الوحيد الذى أجيده فيها هو قيادتها.. مما يجعلنى عرضة للكثير من عمليات النصب الخبيثة فى ورش الإصلاح.. ولكننى اعتدت على أن أستسلم تماماً لما يقوله «الأسطى»، على اعتبار أننى لن أفهم شيئاً حتى إذا قام بشرح ما يقول!
- هنحتاج شوية حاجات من المحل الذى يقع فى أول الشارع! ماتشغلش بال حضرتك، أنا هابعت حد من العيال يجيبها.. معاك ورقة وقلم فى العربية؟؟
تناول الورقة التى أعطيتها له.. وبحرفية طبيب متمرس خط عليها بعض الأشياء التى عجزت عن قراءتها لرداءة الخط! يبدو أننا لا نعانى من الوحدة -كأطباء- فى هذا الأمر.
- يا مصطفى..
أقبل طفل صغير تفوح من ملابسه رائحة الزيت.. ممسكاً بيديه أحد الاختراعات العجيبة التى -وبمعجزة ما- ينتج عن تركيبها مع مثيلاتها من القطع الأخرى أن تُسيّر هذه الهياكل المعدنية!
- نعم يا أسطى..
- خد هات الحاجة اللى فى الورقة دى من محل قطع الغيار.. نظر «مصطفى» إلى الورقة نظرة خاوية وهو يهز رأسه.. ثم ترك ما فى يده.
- حاضر يا أسطى..
نظرت إلى «مصطفى» محاولاً تأمل ملامحه من بين كميات الشحم التى طالت وجهه حتى طمست ملامحه.. لا يبدو أنه قد تجاوز العاشرة!
كيف قرأ هذا الصبى الصغير ما كتبه الأسطى فى الورقة؟!.. استوقفته متعجباً..
- أنت عرفت تقرا الورقة يا مصطفى؟!
ابتسامة ساخرة لاحت على وجه الطفل حتى إننى تخيلت أن عمره قد ازداد عمراً آخر
- أنا مش باعرف أقرأ أصلاً يا دكتور!
- ليه أنت عندك كام سنة؟
- أربعتاشر سنة..
تعجبت وأنا أهتف: إيه ده أمال مش باين عليك! طب يعنى فى سنة كام؟
- أنا مادخلتش مدرسة!!..
كان رده خافتاً، ثم تبعه بالرحيل من أمامى.. يبدو أنه لا يريد المزيد من الفضوليين!!
■ «لكل طفل الحق فى التعليم.. وأن يكون (مجانياً) وإلزامياً فى مراحله الابتدائية.. ولا يجوز استخدام الطفل قبل بلوغه سن الرشد. ويحظر فى جميع الأحوال حمله على العمل أو تركه يعمل فى أى مهنة أو صنعة تؤذى صحته أو تعليمه أو تعرقل نموه الجسمى أو العقلى أو الخلقى». البند السابع من اتفاقية حقوق الطفل التى أصدرها «اليونيسيف» فى نوفمبر ١٩٨٩، ووقعت عليها مصر فى مايو ١٩٩٠!!
■ إن الذين أصدروا قانون البغاء فى أربعينات القرن الماضى نسوا أن يذكروا الأشكال الأكثر انتشاراً منها.. التى تعتبر وجود هذا الطفل أكبر دليل عليها.. وأكثرها بؤساً!! لقد قامت الدنيا ولم تهدأ حين تم استخدام أحد الأطفال فى أحد مشاهد الاغتصاب السينمائية التى يستخدمها البعض للترويج لبضاعته الرخيصة فى أفلامه.. ولكن يبدو أن هؤلاء الغاضبين لم ينتبهوا إلى مشاهد الاغتصاب الأبشع التى تجرى حولهم يومياً.
إن وجود مثل «مصطفى» فى شوارع المحروسة لهو أكبر دليل على فشل متعاقب للحكومات والأهالى على السواء.. واستمرار استغلال عمالة الأطفال -الرخيصة- يؤدى إلى رفع نسبة البطالة بين الشباب.. فضلاً عن خروج أجيال متعاقبة تفتقر إلى الحد الأدنى من الانتماء إلى شىء.. سوى أنفسهم! لن يهتم «مصطفى» إذا كان دستوره المقبل يحمى حقوقه -التى لا يعرفها- ولن يضيره أن يحكمه قانون مدنى أو عسكرى.. ولن يهتم بدعوات ممارسة حقوقه السياسية التى تدعوه فى التلفاز.. فهو يفترض دوماً أنه لا حق له ولا عليه.. طالما لن يعنفه صاحب الورشة إذا أبطأ فى عمله قليلاً!
لا أبرئ نفسى وإياكم.. مننا لله!!