لا يخفى على المتابع أن معظم المؤتمرات والندوات التى عُقدت من أجل قضية الإصلاح الدينى أو تجديد الخطاب الدينى لم تخرج عن الكلام النظرى البعيد عن الواقع، وأن غياب منهج الإصلاح سمة مشتركة بين تيارات الإسلام السياسى بمنهجها المنحرف، والمؤسسات الدينية بمنهجها المنضبط، والدولة ليس لها موقف.
فالمنهج الذى يدعو إليه الأزهر يكاد يكون خفىَّ المعالم عند الأزهريين أنفسهم بل عند قيادات أزهرية، وينقسم الأزهريون بسبب غياب المنهج ومعالمه إلى ثلاث فئات، الفئة الأولى من الأزهريين تنتمى للأزهر شهادةً ومنهجاً، وهم القلة، والفئة الثانية تنتمى للأزهر شهادةً وتحاربه منهجاً، وهم كثرة، والفئة الثالثة من الأزهريين لا تعلم منهج الأزهر أصلاً حتى تنتمى إليه أو ترفضه!!، والفئة الثالثة تُستقطب يومياً من الفئة الثانية.
ذلك لأن معالجة الأزمة الفكرية لم تكن محوراً حقيقياً ولا واضحاً، ولا منطلقاً للأهداف، وليس لدينا ما نزود به حركة المجتمع بما يحتاجه من توعية فكرية حتى لأبناء المدرسة الأزهرية نفسها، وما زال السؤال المشكل هو: إلى أى مدى يستطيع القائمون على الخطاب الدينى إنتاج أفكار ضابطةٍ للأمة، مواجهةٍ للانحراف الفكرى، مفككةٍ للتطرف، لها تأثيرها على الواقع، وقادرة على وصل المجتمع بالقيم الهادية فى القرآن الكريم والسنة المطهرة، واستصحاب هذه القيم فى مجالات الحياة المختلفة، وليس فقط فى مجال الفقه التشريعى؟ وكيف نوجد فكراً منبثقاً عن الإسلام يراعى الإنسان والزمان والمكان والواقع والتخصص، ولا يصطدم مع المخالف؟
وأما تيارات الإسلام السياسى فقد كثر كلامها عن وجود مشروع إسلامى، وعملت على استثمار الغضب الشعبى من الأوضاع المختلفة، فزعمت وجود مشروع إسلامى ينهض بالأمة، فأدى ذلك إلى تقسيم الناس إلى قسمين: قسم مع المشروع، إذن هو مع الإسلام!!، وقسم ليس مع المشروع، إذن هو ضد الإسلامى، واعتمدوا على تحريك العاطفة، وعلى ضم المقهورين والمظلومين، وعلى الخطاب الديماغوجى، أى مخاطبة الناس مع استغلال مخاوفهم وآمالهم، من أجل التحكم فيهم وتوجيههم، وهذا خطاب منافٍ للدين، لأنه لا يعتمد على الصدق.
وفوق ذلك فالجميع ضربوا عرض الحائط بمشروعات النهضة الحقيقية السابقة، مثل مشروع عبدالقادر البغدادى (1620 - 1682م)، وهو مشروع فكرى متميز، أراد أن يعبر للفكر عن طريق اللغة، ورأى أن اللغة هى البداية لانطلاق النهضة، وأن النهضة الثقافية والفكرية تبدأ من اللغة، وجعل «البغدادى» اللغة والفكر قرينين.
وأيضاً المشروع الإصلاحى الذى قاده المرتضى الزبيدى، صاحب «تاج العروس» (ت 1790م)، حيث ركز على الجانب اللغوى، لكنه أضاف إليه التوثيق، وإحياء منظومة الأخلاق، فجعل الأركان الثلاثة (اللغة - الأخلاق - التوثيق)، هى الدعامة التى يقوم عليها مشروع النهضة الحضارية والثقافية والعلمية.
وهناك مشروع الشيخ حسن العطار شيخ الأزهر (ت 1835م)، الذى تجلى فى أن بلادنا لا بد أن تتغير ويتجدد بها من العلوم والمعارف ما ليس فيها، بل طلب من رفاعة الطهطاوى متابعة الإنجليز، لأن معهم مفتاحاً ليس معنا، وهو ما نسميه اليوم «التكنولوجيا».
ويقيناً أن الحركات الإسلامية لا تريد مشروعاتٍ جادة، وإنما تريد المشروعات الحماسية التجميعية من خلال استنفار الطاقة العقلية والمشاعر والعواطف لدى المنتسبين إلى هذه التنظيمات.
والملاحظ أن الدولة نفسها ليس عندها نموذج معرفى يعبِّر عنها، ولا تتبنى خطاباً حقيقياً للإصلاح الدينى، فتراها تحتضن بعض الأحزاب والأصوات التى تتبنى التطرف وتنشر الانحراف والتشدد، فى الوقت الذى تدعو فيه الأزهر لتجديد الخطاب الدينى ومحاربة التطرف، إنه غياب للمنهج الإصلاحى وللرؤية عند الجميع، ويظلُّ أفرادٌ هنا وهناك هم المعوَّل عليهم فى هذا المضمار.