ربما تكون هناك فرصة ولو ضئيلة، ووقت ولو قليل، لنستفيد من تجربة انتخابات «مجلس الشيوخ» فى انتخابات «مجلس النواب»، التى صارت على الأبواب. نبض الشارع وفكره ورد فعله فى ما يختص بتجربة انتخابات «مجلس الشيوخ» يجب أن يُؤخذ فى الحسبان لمن يهمه الأمر. وكما كان واضحاً وضوح الشمس، فإن اللافتات الشارعية والملصقات الجدارية والفواصل الإعلامية/ الإعلانية التنويهية لا تضر ولا تنفع. وكما كان جلياً وبيّناً، فإن أسماء وهويات وسير المرشحين الذاتية لم تجد من يُدقّق فيها أو ينقّب عنها بين القاعدة العريضة من الناخبين. بل لا يخفى على أحد أن كثيرين فى الشارع حين تسألهم اليوم عن تقييمهم أو تحليلهم فى ما يختص بتجربة انتخابات «مجلس الشيوخ» سيباغتونك بإجابة مفادها «هو كان فيه انتخابات؟! والله ما أعرف». وحتى لو كان القسم هنا يشوبه الشك فى المصداقية، فإن جانباً منه على الأقل حقيقى. فتفاصيل ما جرى ونتائجه، بل والغاية الأصلية من المجلس لا تحتل حيزاً يُعتد به فى الأولوية المعلوماتية لدى المواطن العادى. وإذا أخذنا فى الحسبان ميلنا الفطرى للتنظير وعشقنا المفرط للتحليل وحبّنا الجارف لأن ندلو بدلونا فى ما نفقه وما لا نفقه، فإن الابتعاد عن ممارسة هذا العشق فى انتخابات مجلس الشيوخ، بل وفى مجلس الشيوخ نفسه، يطرح الكثير من الأسئلة، بغية الاستفادة فى ما هو قادم.
هذه الأسئلة لا تشكك فى الغاية من «مجلس الشيوخ» لا سمح الله، أو تقلل من قدر كل من رشح نفسه أو وجد نفسه مرشحاً حاشا لله، أو حتى تطعن فى إمكانات المجلس وقدرته على «دراسة واقتراح ما يراه كفيلاً لتوطيد دعائم الديمقراطية ودعم السلام الاجتماعى والمقومات الأساسية للمجتمع وتعميق النظام الديمقراطى»!
وبغض النظر فى معنى هذه الكلمات ونسبة الجانب النظرى مقارنة بأرض الواقع، ومدى استيعاب القاعدة العريضة من المصريين لهذه الغايات من المجلس وغيرها، مثل استشارته فى تعديل مواد من الدستور، أو بنود اتفاقات دولية أو معاهدات صلح، أو حتى باعتباره وسيلة جيدة لوضع حد لمشكلات طرأت فى الفترة الأخيرة فى ما يختص بحاجة مجلس النواب إلى مرجعية تشريعية ومعرفية واجتماعية ثاقبة للقوانين التى يتم إصدارها، فإن «مجلس الشيوخ» حتماً سيقوم بدور فى «إثراء» المشهد السياسى.
لكن «إثراء» المشهد السياسى يختلف عن «إنقاذه». ومن هنا تأتى أهمية النظر إلى تجربة انتخابات «مجلس الشيوخ»، بينما نمضى قُدماً فى طريقنا إلى انتخابات «مجلس النواب». وحتى لا نُحمّل الأمور ما لا تحتمل، فعلينا أن نعى تماماً أن الله لا يُكلف نفساً إلا وسعها، وأن المخ البشرى لديه سعة استيعابية يصعب تمديدها حال وصلت أقصاها، وإلا تعرّض للانفجار كالبالون أو لحمل سلاح اللامبالاة. والعقود الأربعة التى سبقت أحداث يناير 2011 شهدت تجسيداً للامبالاة الشعبية بشكل واضح لا يحتمل الإنكار أو التمويه، وبعدما وصلت اللامبالاة إلى أقصاها، كادت تتحول إلى انفجار يأتى على الأخضر واليابس.
غالبية المصريين منشغلة بتفاصيل الحياة اليومية، وبالطبع الأوضاع الاقتصادية تحتل مكانة بارزة، ثم تأتى بعدها كورونا. وهنا أشير إلى أن التعامل الشعبى مع كورونا لم يعد قائماً على القلق منه كوباء ومرض، بل كعامل يؤثر فى تعليم الأبناء وفرص العمل وغيرها من الجوانب المعيشية والاجتماعية. وهذا مثير للقلق أيضاً!
كما تجدر الإشارة إلى أنه لا يوجد شعب على وجه الأرض يظل منشغلاً بالسياسة طوال الوقت. الانشغال الشعبى العارم بها يأتى غالباً بسبب مؤجّجات وقتية، مثل ثورات أو احتجاجات، أو تغيّرات كبرى وفجائية، أو تحركها أحداث غير معتادة أو فى مواسم مثل الانتخابات. وهنا مربط الفرس! لدينا أقل من شهر على بدء الماراثون الانتخابى، وهى فترة لا تكفى بالطبع لرفع الوعى وجذب الانتباه وإثبات بالحجة والبرهان أن صوت الناخب مهم، وليس مجرد تحصيل حاصل أو صفر على اليسار، لكن ربما تكون الفترة كافية لمن يهمه الأمر إجراء بحوث أو مسوحات على أرض الواقع تتعلق بشعبية الأحزاب وحجم أثرها الحقيقى على الأرض ومعرفة المواطن بها من الأصل. وربما تكون أيضاً مدخلاً للنظر فى ماهية الحياة السياسية فى مصر، ونقاط قوتها وعوامل ضعفها. وقد تكون الفرصة جيدة أيضاً للأحزاب نفسها لتقييم أوضاعها على أرض الواقع ومدى شعبيتها، بناءً على برامجها ونشاطها وليس بضائعها ومنتجاتها، بما فى ذلك المنتجات الدينية السلفية وصكوك الغفران ومفاتيح الجنة والنار.
أما المرشّحون، فقلبى معهم. صحيح أن خوض الانتخابات فى مراحل الحراك الشديد والاهتمام الشعبى الجارف يكون مرهقاً ومنهكاً، لكن خوضها كذلك فى مراحل الخمود والخمول يكون محبطاً ومنهكاً أيضاً.