ومضة من الوعى تجلت فى تعليقات عامة الشعب المصرى على ما قاله الرئيس الأمريكى ترامب عبر مكالمة هاتفية جمعت بينه وبين عبدالله حمدوك رئيس الحكومة السودانية، التى انتقد خلالها الموقف الإثيوبى المتعنّت فى ما يتعلق بأزمة سد النهضة، وقوله إن أحداً لن يلوم مصر إذا فجّرت السد.
المصريون تذكّروا على الفور الفخ الأمريكى للرئيس العراقى الراحل صدام حسين بتشجيعه على غزو الكويت، ثم جرى ما جرى بعد ذلك من غزو العراق وتفكيك جيشه الذى كان يُعد من أقوى جيوش المنطقة، وتوالت التحذيرات عبر صفحات «فيس بوك» من خطورة ما صرّح به ترامب، وانعكست حالة الشك والريبة فى صدق نوايا الصديق الأمريكى إلى موقف واضح ومعلن من الشعب المصرى بالالتفاف حول جيشه، وتفويض ضمنى للقيادة السياسية باتخاذ الموقف الذى تراه متوافقاً مع المصلحة المصرية، دونما الوقوف أمام تصريحات ترامب.
اللافت هنا هو الموقف الرسمى المصرى الذى لم يُفصح عن رد فعل واضح، سواء على تصريحات «ترامب»، التى تبدو داعمة لنا، أو على الموقف الإثيوبى الغاضب من تلك التصريحات، وهو ما يؤكد ما تناولته من قبل فى مقالات سابقة حول استعادة مصر لإرادتها السياسية بعد ثورة ٣٠ يونيو العظيمة، والتى نلمحها فى كل سياسات الرئيس السيسى الداخلية والخارجية، وقدرته على اتخاذ القرار، بعيداً عن الضغوط -أو الإغراءات- الداخلية والخارجية، فى إطار رؤية استراتيجية -وليس مجرد تكتيك سياسى مؤقت- تأخذ مصالح الشعب بعين الاعتبار.
ومرة أخرى، أؤكد أن مصر بعد ٣٠ يونيو انتقلت بعلاقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية إلى مربع مغاير تماماً لذلك الذى تقوقعت فيه من قبل لمدة ٤٠ عاماً تقريباً، ولم نعد رهن إشارة (الصديق) الأمريكى فى تحقيق مصالحه منفرداً، ولو كانت على حساب مصلحتنا.
وتشهد العلاقات المصرية الأمريكية الآن مرحلة جديدة من التعاون والتفاهم والتنسيق فى جميع المجالات، خاصة السياسية والعسكرية، خصوصاً بعد نجاح الرئيس السيسى والدبلوماسية المصرية فى إعادة الثقة بين البلدين ووضع إطار مؤسسى يتّسم بالاستمرارية، وهو ما يُطلق عليه الحوار الاستراتيجى، كما تم وضع قاعدة للمصالح المشتركة تقف عندها الدولتان على قدم المساواة، دون أى تمييز لتحقيق مصالحهما، دون الإضرار بمصالح طرف على حساب الآخر.
واقع الحال يشير إلى ارتياح شعبى مصرى واضح للعلاقة المتميزة بين الرئيسين السيسى وترامب، وحتى لا ننجرف وراء المشاعر بين الارتياح والقلق، علينا أن نتأمل قليلاً العوامل الموضوعية التى تدفع الإدارة الأمريكية -مهما كان الجالس على كرسى الرئاسة فى البيت الأبيض- للحرص على علاقتها القوية بمصر، من بينها مثلاً ما قاله الجنرال مارتين ديمبسى، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، رداً على سؤال النائبة الجمهورية كاى جرانجر فى جلسة استماع لجنة الدفاع الفرعية المنبثقة عن لجنة المخصّصات بمجلس النواب الأمريكى، فى 17 أبريل 2013، سألت النائبة عما إذا كانت المؤسسة العسكرية فى مصر تعد لاعباً مستقلاً، ويمكن الاعتماد عليها فى ضوء أجواء الاضطرابات التى تمر بها مصر، فأجاب ديمبسى مؤكداً أن مصر هى إحدى ركائز الاستقرار فى المنطقة، كما شدّد على أن استثمار الولايات المتحدة فى علاقتها بالمؤسسة العسكرية المصرية هو استثمار جيد للغاية، وكان له تأثيره الواضح فى الحفاظ على الاستقرار والأمان. وكذلك أكد وزير الخارجية السابق جون كيرى أثناء جلسة الاستماع مع اللجنة ذاتها أن واحداً من أهم استثمارات الولايات المتحدة الأمريكية مع مصر هو علاقتها بالمؤسسة العسكرية منذ أكثر من 30 عاماً. وأكد تمتع تلك المؤسسة بالدراية الكاملة بطبيعة العلاقة مع واشنطن، وكذلك فإن القوات المسلحة المصرية هى الضامن الرئيسى لتحقيق المرور الآمن للقطع البحرية الأمريكية فى قناة السويس، وأى إضرار بها سيشكل مخاطر مباشرة ضد المصالح الأمريكية قبل المصالح المصرية، فى ظل ارتفاع مؤشرات المخاطر والتهديدات الأمنية الراهنة فى المنطقة بشكل عام.
هنا يتّفق البنتاجون مع «الخارجية» على ضرورة الحفاظ على العلاقات الاستراتيجية المصرية الأمريكية، بعيداً عن حيثيات العلاقة مع الرئيس الأمريكى.
تلك العلاقة العسكرية الراسخة مع البنتاجون تقوم على اعتبار أن الجيش المصرى صمام أمان للاستقرار بالمنطقة.
أيضاً فى 3 يوليو 2013، أصدر الرئيس السابق أوباما بياناً حول الأوضاع فى مصر، أكد فيه أن الولايات المتحدة منذ ثورة 25 يناير تدعم مبادئ أساسية فى مصر، وهى أهمية نقل السلطة للمدنيين، وجاء موقف الكونجرس الأمريكى مختلفاً عن موقف البيت الأبيض، وأصدرت لجنة الشئون الخارجية بالكونجرس بياناً فى الخامس من يوليو، أكد أن الإخوان المسلمين فشلوا فى فهم الديمقراطية بشكل حقيقى، وخلال الأيام التالية بدأ يتزحزح موقف الإدارة الأمريكية تدريجياً، وظهر قبولها للوضع الجديد فى مصر.
تصريحات ترامب حول أزمة سد النهضة ليست من قبيل المجاملة، وإن كانت تبدو داعمة لمصر، فهى أيضاً مبنية على ضوء المصلحة الأمريكية فى أهمية الحفاظ على علاقتها بدولة محورية ولاعب رئيسى فى كل القضايا الشائكة بالمنطقة، وهى أيضاً لن تدفعنا لاتخاذ موقف لا يتفق مع حساباتنا الاستراتيجية، لذلك لم أفرح بما قاله ترامب، ولم أقلق أيضاً.