بعد توابع اشتعال الصراع العقائدى فى فرنسا.. تبقى الإشكالية الأهم فى الحمم الكامنة داخل بركان قابل للانفجار مجدداً وفق كل شواهد المشهد الأوروبى.. إلى أى البلاد الأوروبية سيتجه «تسونامى» اصطدام جبهتى التطرف؟. منذ 2005 اندلعت شرارة نشر صحيفة دانماركية رسوماً تجاوزت خطورتها من مجرد كاريكاتير مستفز إلى خلط شائن بين السياسة والدين، ليستمر التلاعب على هذا الوتر عبر فترات متقطعة.
لم يكن الصدام مفاجأة.. وإن بدت أوروبا غير مستعدة له نتيجة تمسكها التقليدى بثوابت لم تستطع استيعاب المتغيرات الطارئة على الوافدين إليها من مناطق صراع مختلفة سواء أفغانستان أو دول عربية نجحت التنظيمات التكفيرية فى تكوين مناطق تمركز وتمكين داخلها. ليس فرنسا فحسب، بل كل أوروبا انتظرت من المهاجرين المسلمين الاندماج داخل مجتمعاتهم الجديدة.. ما تصورت أنه خدمة لمصالحها دفعها للتغاضى عن متغيرات عقود ماضية فرضت طبيعة مختلفة على الوافدين إليها. منذ البداية اختار «المهاجرون الجدد»، وأغلبهم من تنظيمات جهادية أو دول داعمة لها، عالماً منفصلاً يجمعهم داخل الدول الأوروبية.. سواء فى الطقوس، والعادات، حتى المظهر وتمسكهم بزى الرجال والنساء الإسلامى كنوع من إظهار التميز عن باقى أفراد المجتمع وتحول فى نظر أوروبا من عادة ذات بعد دينى إلى شعار تمييز سياسى واجتماعى. لم يفطنوا -مثلاً- أن فرنسا ما زالت تحكمها ثقافة ثورة أحد شعاراتها كان «اشنقوا آخر إقطاعى بأمعاء آخر قسيس!» تعبيراً عن ثورة الشعب ليس فقط على الملكية والإقطاع بل على استبداد الكنيسة. يظل جوهر ذات الثقافة قاسم مشترك بين أغلب دول أوروبا وتاريخ صراعها الطويل ضد تسلط الكنيسة وحروب خاضتها لمصالحها كلفت أوروبا مئات آلاف الضحايا، بالإضافة إلى مَن تم حرقهم وقطع رؤوسهم لمخالفة الكنيسة. أوروبا المتمسكة بموروثاتها التاريخية لم يكن منتظراً أن تذعن لمجموعات مهاجرة تنعم بامتيازات الهجرة واللجوء وفى ذات الوقت تتحدى كل مظاهر التأقلم مع ثوابتها.. بمعنى آخر تطمع فى عسل النحل دون تحمل لسعاته.
الصراع الثقافى كان مقدراً له التحول إلى عنف بين طرف أوروبى اعتقد أن قبوله للوافدين سيكون وفق شروط التعايش مع المجتمعات الجديدة والتخلى عن كل الأنماط الفكرية، الاجتماعية، والأهم الدينية، التى حملها فى حقائبه.. مقابل طرف مهاجر رافض لإلغاء كيانه والذوبان داخل نمط مجتمعى مختلف. تصاعد التيارات اليمينية المتطرفة وحصولها على انتصارات سياسية زاد فى إشعال نيران التوجس.. منح مساحة لمخاوف بعض ساسة ومفكرى الغرب التى بلغت إلى تحذير من «أسلمة الغرب» وحتمية اندلاع الصراع بين الثقافتين. تعمق الخلط فى أوراق جوهر القضية الكامن فى مظاهر عداء للمسلمين كجالية مهاجرة تُصِر على إظهار اختلافها، والتعمد بإقحام الاعتراض على الإسلام كديانة. الخلط حدث نتيجة الاستثمار الهائل من التنظيم الدولى للإخوان للحريات فى الغرب فى الترويج لأهدافه المسمومة، خصوصاً أن مصدر التنظير والترويج لفكرة «العزلة» هو يوسف القرضاوى رغم كل ادعاءاته الشكلية حول الحوار مع الآخر، إلا أن دعواته المعلنة كانت دائماً تُحرض الفصل بين المسلمين الذين يعيشون فى الغرب وبين الحضارة الأوروبية كما نصت كلماته «لا بد أن يكون للمسلمين مجتمعاتهم الصغيرة ضمن المجتمع الكبير وإلا ذابوا فيه كالملح فى الماء» بل تمادى فى الاقتراح على المسلمين الاستفادة من خبرة اليهود التاريخية داعياً إلى إقامة «جيتو» إسلامى فى كل دولة أوروبية!.
على الطرف الآخر، عبر عقود ماضية وجدت أمريكا وبريطانيا وباقى دول الغرب فيما أطلقت عليه «الإسلام السياسى» ورقة لمقاومة المد الشيوعى.. ثم بعد انتهاء هذا الخطر على المصالح الغربية فى المنطقة، بدأ التذمر يتصاعد ضد «المجتمعات الصغيرة» بل ألصِق بها حتى الإسلام كديانة حتى إنه لم يعد مقصوراً على اليمين المتطرف بكل الشعبية التى اكتسبها فى عدة دول أوروبية. هذا التعبير عن الغضب لم يكن ليمر دون دفع الثمن، إذ سرعان ما انقلب السحر على الساحر لينقلب الطرفان من حليفين إلى عدوين.
مبادرة الأزهر الشريف جاءت الأكثر اتساقاً مع الحكمة والعقل عبر إطلاق منصة عالمية للرد على المفاهيم الخاطئة ونشر الحقائق وتعريف الآخر جوهر دعوة الإسلام بكل ما تحمله من قيم السلام والعدل وتقبل الآخر.. منصة لن يقتصر دورها على التعريف فقط، المطلوب أن يمتد دورها إلى قطع الطرق أمام خلط أوراق تُصِر على تغذيته جماعات تمتهن توجيه الدين خدمةً لمصالحها الشخصية.