أتصور أن واحداً من الاهتمامات التى يجب أن تضعها الحكومة الثانية للمهندس إبراهيم محلب فى الاعتبار، أن تعمل على بناء حوار استراتيجى متعدد الأبعاد مع الأشقاء والإخوة فى بلدان الخليج العربية، وألا يقتصر هذا الحوار الاستراتيجى مع نظراء حكوميين وحسب، وإنما يشمل أكاديميين وإعلاميين وباحثين فى أمور الاقتصاد والأمن والسياسة والاجتماع. ورغم أننا لا نشك أبداً فى حكمة صانعى القرار فى البلدان الأربعة التى قررت من اللحظة الأولى لإسقاط حكم الإخوان غير المأسوف عليه أن تقف مع مصر قلباً وقالباً، وأن تتخذ مبادرات سياسية واقتصادية شكلت لمصر رافعة ضرورية فى لحظة كانت مليئة بالتحديات الجسام. بيد أن الأمر فى جوهره أبعد كثيراً من كونه قراراً مهماً وكبيراً أصدرته القيادة للبلاد بطيب خاطر، فهناك طبقة خليجية مثقفة متنوعة المشارب الفكرية والسياسية تناقش مساندة مصر من زاوية مختلفة تماماً، وتطرح إشكاليات مهمة تفرض علينا أن نكشف ما يمكن كشفه، وأن نفسر ما يمكن تفسيره بأكبر قدر من العقلانية والإقناع.
بعض هؤلاء يتساءل عن القدرة الحقيقية لمصر فى أن تنفذ مضمون العبارة الشهيرة التى أطلقها الرئيس عبدالفتاح السيسى إبان حملته الانتخابية وهى «مسافة السكة»، وذلك فى معرض تأكيده أن مصر لن تتخلى عن أى بلد عربى، لا سيما فى منطقة الخليج، وأنها قادرة على الوصول إلى مسرح العمليات فى أسرع وقت ممكن لا يزيد على الزمن الذى يتطلبه الانتقال من مكان إلى آخر. ويرتبط بذلك تساؤل آخر عن حدود القدرة العسكرية المصرية، وإلى أى مدى يمكن أن تشكل مظلة حماية وأمان للشعب العربى فى الخليج عند الضرورة، فى الوقت الذى لا تملك فيه صناعة عسكرية قوية.
والبعض الآخر يرى أن الانقسام الخليجى القائم بين قطر وأربع دول فى مجلس التعاون بشأن التطورات فى مصر، قد أدى إلى إثارة أزمة ربما تؤثر على تماسك ومن ثم استمرارية وبقاء مجلس التعاون الخليجى ذاته، وأن المسئولية هنا من وجهة نظر هؤلاء تقع على مصر وليس على قطر التى تغرد خارج السرب منذ سنوات، وإلى أى مدى هناك ضمانات بألا يعود الإخوان بقوة للسياسة المصرية مرة أخرى، ويغيروا توازناتها الداخلية والخارجية.
ولا تخلو المناقشات مع مثقفين خليجيين من إبداء التخوف من تقلبات السياسة المصرية وتأثيرها علىى الاستثمارات الخليجية القائمة بالفعل فى مصر، أو التى تريد أن تتجه إليها فى المدى القصير. فى حين يرى البعض أن توازن القوى من المنظور الاقتصادى هو لصالح دول الخليج، وبالتالى يوجد نفوذ خليجى كبير وغير معتاد، قياساً بخبرة سابقة، كانت فيها مصر وخبراؤها ومدرسوها هم رمز العطاء الحضارى والتنمية للمجتمعات الخليجية.
وفى الحقيقة، فإن هذه التساؤلات الخليجية يجب ألا تشكل لنا نحن المصريين صدمة أو مفاجأة بأى حال، فالبيئة الإقليمية والدولية محملة بالشكوك فى كل شىء تقريباً حدث فى مصر، ومحملة أيضاً بحملات دعائية مناهضة لكل التطورات التى جرت منذ 30 يونيو إلى الآن، وهو ما يضع عبئاً كبيراً علينا حكومة وشعباً فى تقديم الإجابات الوافية سواء للمتخصصين أو للرأى العام الخليجى الذى قد يتأثر ببعض مما يسمعه أو يقرؤه، فالذين يتساءلون عن مدى مساندة مصر عسكرياً، عند حدوث خطر داهم عليهم، لم يستوعبوا تماماً الدروس والدلالات المهمة للغاية للمناورات والتدريبات العسكرية التى أجرتها مصر مع كل من المملكة السعودية والإمارات والبحرين فى الأشهر الثلاثة الماضية.
وفى تراث العلاقات بين الدول أن التعاون العسكرى يعد قمة التعاون بين بلدين، يبدأ من تبادل الرسائل بين القادة العسكريين فى بلدين واللقاءات الدورية بين القيادات للتعرف على طرق العمل المختلفة، ومروراً بالتدريب المشترك ونشر تبادلى للقوات على أرض البلد الآخر لزمن معلوم، أما قمة التعاون العسكرى، فتتمثل فى خوض حرب ضد عدو مشترك. وأتصور أن تنفيذ تدريبات عسكرية مشتركة بين مصر وأى بلد خليجى يعنى أن البلدين دخلا فى طور علاقات استراتيجية بعيدة المدى، مستندة فى ذلك إلى تاريخ طويل وإلى مساحة واسعة جداً من التعاون فى مجالات مختلفة، ويعنى أيضاً أن قوات كل بلد باتت على دراية بمسرح عمليات جديد قد يتعرض إلى خطر ما، فتكون قوات البلد الآخر جاهزة على التعامل معه فوراً.
وفى المجال الاقتصادى هناك الكثير مما يقال ويدل على أن علاقات مصر مع غالبية البلدان الخليجية هى علاقات متشعبة وراسخة وبحاجة إلى المزيد من التواصل للقضاء على الشكوك التى يثيرها بعض المثقفين والإعلاميين. فالاستثمارات من السعودية والإمارات تضاعفت فى غضون السنوات الثلاث الماضية، وهناك استثمارات كبرى أعلن عنها رجال أعمال إماراتيون فى البنية الأساسية والخدمات البنكية والإسكان ومجمعات الترفيه والتسويق سيتم تنفيذها فى الأشهر القليلة المقبلة، ولما كان رأس المال جبان ولا يتحرك صوب جهة إلا بعد التيقن من كونها جهة واعدة، وتحافظ على حقوق المستثمرين ومكاسبهم، فإن مسلك بعض رجال أعمال خليجيين للاستثمار فى مصر لهو خير رد على الأصوات التى تشكك بقدرة مصر على العبور من عنق الزجاجة الراهن.
والحقيقة أنه يعز على كل مصرى أن يرى تشكيكاً فى قدرة مصر على إنجاز تحولها التنموى والاقتصادى فى ظل وجود رئيس منتخب بعد انتخابات نزيهة وشفافة لم تعرفها مصر ولا المنطقة من قبل. ويعز علينا أيضاً القول بأن الإخوان قد يعودون إلى الحكم مرة أخرى، وهم الجماعة التى لفظها الشعب المصرى، حتى نجح فى إسقاطها سقوطاً ذريعاً، ولن تقوم لها قائمة ما دامت على خصومة مع المواطنين أنفسهم.
إن الشكوك التى تأتى من بلد أوروبى أو الولايات المتحدة نفسها تعد تطوراً طبيعياً يتناسب مع منظورات هذه الدولة الرافضة والناقدة بشدة لإرادة الشعب المصرى، كما ظهرت بوضوح فى 30 يونيو. أما حين تأتى من أشقاء وأصدقاء يدركون جيداً أن سقوط مصر فى نفق مظلم، كالذى كان إبان عام الحزن الذى حكم فيه الإخوان مصر، كان يعنى أيضاً سقوط بلدانهم ومجتمعاتهم فى النفق المظلم نفسه، وأن الوقوف التاريخى لمساندة مصر كان إدراكاً بضرورة إنقاذ مصر وإنقاذ الذات فى الآن نفسه.