قدوم وافد جديد إلى البيت الأبيض لمدة أربع سنوات قادمة حدث لا يمكن فصله عن خيوط الملف العراقى - الإيرانى المتشابكة فى سياق مجموعة إشارات ذات مغزى صدرت خلال الأسابيع الماضية. أولاً.. إعادة تأكيد وزير الدفاع الأمريكى سحب القوات الأمريكية من العراق تنفيذاً لوعود الرئيس ترامب تمثل إحدى نقاط الالتقاء مع إدارة الرئيس القادم «بايدن»، خطوة سحب 500 من القوات الأمريكية جاءت متزامنة مع تدريبات مكثفة بالذخيرة الحية أجرتها وحدات قتالية أمريكية داخل محيط المنطقة الخضراء والسفارة الأمريكية.. إجراء غير مألوف فى وضح النهار بعد أن كانت هذه القوات تحرص على إجراء مناوراتها بعيداً عن مناطق وجود المدنيين. الرسالة حملت بعض الطمأنينة للحكومة العراقية التى يمثل لها سحب القوات أو إغلاق السفارة كابوساً مزعجاً، خصوصاً حين يتم ذلك وسط حالة عدم اليقين بشأن قدرة الأجهزة الأمنية الرسمية على احتواء خطر الميليشيات التابعة لإيران الذى يتعاظم يومياً، وأن العراق دون الدعم الأمريكى سيظل تحت الهيمنة الإيرانية سواء على صعيد قراراته الخارجية أو توجهاته الداخلية. تزويد السفارة بمنظومة دفاع متطورة ونقل طبيعة المواجهة مع الميليشيات من حالة «رد الفعل» إلى «الفعل» ظهرت نتائجها فى التصدى لعمليات إطلاق الصواريخ الممنهجة على السفارة وقواعد تمركز القوات الأمريكية.
الإشارة الثانية حملتها «قاذفة القاذفات» أو طائرات B25، التى أنهت انتشارها فى الشرق الأوسط منذ أيام فى مهمة طويلة الأمد. رغم استبعاد سيناريو قيام «ترامب» بعملية عسكرية ضد إيران، إلا أن الرسالة إذا تم ربطها بنشر أربع منظومات دفاع باتريوت فى مناطق مختلفة بالعراق خلال الأشهر الماضية، بددت بحزم توقعات إيرانية لم ترقَ إلى استيعاب طبيعة السياسة الأمريكية، خصوصاً بعد إجماع آراء أقطاب كلا الحزبين -الديمقراطى والجمهورى- على استبعاد عودة إدارة الرئيس القادم بايدن مع إيران إلى نقطة الصفر أو تفاهمات إدارة الرئيس الأسبق أوباما عام 2015 فى إطار المتغيرات العديدة التى طرأت خلال الأعوام الماضية. المرجح أن تُكثف إدارة بايدن الضغط على إيران عبر التنسيق مع الحلفاء فى الاتحاد الأوروبى وحلف الناتو فى صيغة ضغط جماعى.
الإشارة الثالثة نقلها إلى بغداد قائد فيلق القدس فى الحرس الثورى الإيرانى. إسماعيل قاآنى. خلال لقاءاته مع قادة الميليشيات التابعة لإيران، وتلخصت فى إعطاء أوامر تهدئة حدة الصراع وتجنب التصعيد مع الأطراف الأمريكية انتظاراً لتسلم «بايدن» مهام الرئاسة رسمياً يناير المقبل. صيغة التفاؤل فى هذا الترقب أغفلت عن حساباتها أن الانقسام غير المسبوق فى المشهد الأمريكى ليس فقط جمهورياً - ديمقراطياً، بل امتد داخل الأحزاب ذاتها بين ديمقراطيين يتوقون إلى استئناف سياسة أوباما، وفريق آخر تتسع مساحة نفوذه الحزبى يسعى إلى تصحيح أخطاء الرئيس الأسبق. إدارة بايدن أمامها اختيار صعب فى السياسة الخارجية بين دعاوى تلتزم بترميم هذه السياسات وأخرى تطالب بتغيير جذرى فى مسارها. المأزق الإيرانى لا يتلخص فى أسماء تتولى رئاسة أمريكا.. ولا فوز «بايدن» يعنى عودة العصر الذهبى للمشروع الإيرانى عراقياً. رغم اختلافات كلا الحزبين فى الطبيعة السياسية، تحديداً فى معالجة القضايا الداخلية، هناك ثوابت يلتقيان عندها.. أبرزها الحرب على الإرهاب، تجفيف منابعه وتتبع كوادره، هى ثوابت أمريكية لا تتغير مع الانتماء الحزبى للرئيس، والمؤكد أن استهداف صواريخ إيران منذ العام الماضى للقوات والمصالح الأمريكية فى العراق يُصنِّفه الشارع الأمريكى كإرهاب.
سياسياً.. حزبا أمريكا يلتقيان أيضاً عند مراقبة النفوذ الروسى العائد بقوة إلى الشرق الأوسط، ومواكبة المد الصينى المتعطش إلى اكتساب مساحات نفوذ اقتصادى ضمن الصراع على النفوذ فى المنطقة، وبالتالى واشنطن لا يمكنها التضحية بالمزيد من التفريط فى ملف النفوذ العالمى حال التخلى عن الشرق الأوسط. إدراك العقول التى تُدير سياسات الحزبين لهذه الحقائق يفرض أهميتها سواء كان الرئيس ديمقراطياً أو جمهورياً مهما بلغت درجة الخلافات بينهما.. فالهدف الثابت هو إبقاء القبضة الأمريكية على المنطقة سواء كانت طبيعتها حديدية أو ارتدت قفاز حرير. المرجح أن يشهد الكونجرس ومجلس الشيوخ أجواءً عاصفة حول التعامل مع الملف الإيرانى وخطورته على المنطقة، تحديداً فى إطار اتفاقيات السلام التى وقّعتها مجموعة دول عربية مع إسرائيل.
فى الوقت ذاته يبرز الشق الاقتصادى، وهو الأكثر تأثيراً فى توجيه الناخب الأمريكى.. رئيس الوزراء العراقى مصطفى الكاظمى خلال زيارته إلى أمريكا شهر أغسطس الماضى بلغ حجم العقود التى وقّعها مليارات الدولارات.. استثمارات لا تملك أمريكا التفريط فى حمايتها، خصوصاً مع أجواء الارتباك الأمنى فى العراق، من جانب آخر أمريكا أيضاً لا تملك التفريط فى الروابط الاقتصادية العديدة مع مجموعة الدول العربية التى ارتبطت مؤخراً باتفاقيات سلام مع إسرائيل أو التغاضى عن دعمها سياسياً وأمنياً ضد التهديدات الإيرانية.