يبدو أن عودة الأمور إلى الحد الأدنى من الاستقرار فى إقليم التيجراى شمال إثيوبيا وما حوله هى أقرب إلى المستحيل فى المدى الزمنى المنظور، فبالرغم من إعلان رئيس الوزراء أبى أحمد استكمال المهمة العسكرية الفيدرالية بالسيطرة على عاصمة التيجراى، يخرج رئيس الإقليم ورئيس الجبهة الشعبية الحاكمة دبرصيون جبراميكائيل مؤكداً أنه يقود قواته لقتال عناصر الجيش الفيدرالى بالقرب من العاصمة، وأنها استعادت بلدة أكسوم التى دخلتها القوات الفيدرالية من قبل، بل إن قواته أسقطت إحدى الطائرات الحربية وأسرت قائدها، وفقاً للصور التى نشرها إعلام الجبهة، كما أنها أسرت جنوداً فيدراليين وآخرين إريتريين كانوا يقاتلون معهم، فضلاً عن قصف مطار العاصمة الإريترية أسمرة بالصواريخ باعتباره نقطة انطلاق طائرات مُسيّرة تضرب مواقع جنود التيجراى. وهكذا فالوضع إجمالاً يفتح الباب بدوره أمام تدخلات إقليمية مباشرة، ودخول المنطقة فى حالة حرب بالوكالة تنذر بكوارث إنسانية كبرى، وفوضى إقليمية الكل فى غنى عنها.
الروايتان الفيدرالية والتيجرانية على هذا النحو متباعدتان تماماً، فالسيطرة على عاصمة الإقليم لا تعنى أن هناك انتصاراً تاماً حققته حملة أبى أحمد العسكرية التى امتدت شهراً كاملاً ومرشحة لوقت أطول، ما دامت قوات التيجراى قادرة على القتال رغم الصعوبات، ولديها قناعة بأن بديل القتال هو الموت أو الإعدام بدون محاكمات. كما أن استمرار الجبهة التيجرانية فى القتال والتهديد بحرب عصابات لا يعنى أنها تملك اليد العليا على الموقف، أو أنها قادرة على دحر القوات الفيدرالية وحلفائها من قوات إقليم الأمهرا والأرومو، وهم المعبأون بروح الثأر التاريخى من التيجراى وراغبون فى اقتلاع قياداتهم ونفيهم من الوجود. ورغم أن الجميع يعترف بقدرات قوات التيجراى العسكرية والتى تقدر بحوالى مائتى ألف أو أكثر قليلاً، من حيث الخبرات القتالية وامتلاك كميات كبيرة من الأسلحة، فمن الصعوبة بمكان أن تحقق هجوماً عكسياً كاسحاً، أو تطرد كل القوات الفيدرالية وحلفائها من العرقيات الإثيوبية أو من دول مجاورة. ومع استمرار الحصار على الإقليم ككل وتوقف وصول الإمدادات الغذائية والوقود وقطع الاتصالات سيؤدى ذلك قطعاً إلى تقييد حركة تلك القوات مهما التزمت بالانضباط وبقرارات قيادة الجبهة، فكل من الطرفين يواجه مأزقاً كبيراً، فالانتصار الرسمى المعلن هو أقرب إلى الوهم، وفى المقابل فإن التمسك باستمرار القتال والمواجهة يعنى أن الفوضى أصبحت أكبر من مجرد احتمال. وفى كل الأحوال فالحروب الأهلية لا تنتج سوى المآسى الإنسانية والجروح المجتمعية التى تظل طويلاً فى الذاكرة الجمعية.
إن استمرار الوضع على هذا النحو بدون تنازلات متبادلة عبر وساطة أفريقية أو أممية ما زالت للأسف ترفضها حكومة أبى أحمد رفضاً جازماً، بحيث تسهم فى وقف القتال فوراً، ومعالجة الآثار الكارثية إنسانياً، والاتفاق على أسس لمحاسبة مَن قاموا من الطرفين بجرائم حرب، والأهم بلورة مخرج تفاوضى لطرفى الأزمة، وبالتالى محاصرة الفوضى الإقليمية المتوقعة، هو رفض يقود قطعاً إلى نتائج كارثية بكل معنى الكلمة، سياسياً وإنسانياً، سواء فى الداخل الإثيوبى أو فى المحيط الإقليمى، متضمناً السودان وجيبوتى وإريتريا.
ففى الداخل الإثيوبى لم تتعامل الحكومة بقدر من الذكاء السياسى يؤدى إلى الفصل بين قومية التيجراى باعتبارها مكوناً أصيلاً من الشعوب الإثيوبية وله حقوقه فى الأمان والحياة والعمل ما دام ملتزماً بالقانون والدستور، وبين حزب الجبهة الشعبية لتحرير التيجراى وقيادتها التى تعارض حكومة أبى أحمد وسياساتها نحو بناء نظام حكم مركزى يقوده الفرد. وعدم التفرقة بين العرقية ككل وبين قيادات يمكن وصفها بالمتمردة، والتعامل معهما كمكون واحد يجب استئصاله وقمعه وفرض كل الضغوط عليه، من شأنه أن يزيد من التفكك المجتمعى، ويرفع حجم المظالم لدى التيجرانيين العاديين، ومن ثم يعطى زخماً لمبدأ القتال من أجل حق تقرير المصير المتضمن فى الدستور ذاته.
وتفيد التقارير من قلب أديس أبابا عن قيام الحكومة بمنع الموظفين الحكوميين المدنيين والعسكريين من عرقية التيجراى من الوصول إلى مقار أعمالهم، وفصل العديد منهم وتركهم وأسرهم بلا مورد حياة، ومنع مَن يريد السفر منهم إلى الخارج من مغادرة البلاد، إضافة إلى صعوبة العودة إلى الإقليم بسبب ظروف الحرب، فضلاً عن الحملات الإعلامية المكثفة ضد التيجراى كعرقية، وضد قادتهم الحزبيين باعتبارهم فاسدين وضد القانون ويجب التخلص منهم، ما يعنى إحداث شرخ كبير فى بنية المجتمع التعددى الإثيوبى، وإفساح المجال أمام عمليات انتقامية شعبية غير منضبطة من العرقيات المختلفة ضد عرقية التيجراى. وإذا أضفنا إلى ذلك ما نشرته وسائل إعلام دولية كبرى حول حدوث أعمال قتل لمجموعات من المدنيين التيجراى أثناء الحملة العسكرية الفيدرالية، وصفتها تقارير منظمة العفو الدولية بأنها أقرب إلى جرائم حرب، يتضح أن هذه المعارك تؤسس لحرب أهلية كبرى فى الداخل الإثيوبى لن تكون محصورة فى إقليم بعينه، بل تمتد إلى الأقاليم الأخرى، وبالتالى يصبح الحديث عن هوية إثيوبية جامعة أعلى من الهويات الفرعية، كما يزعم أبى أحمد فى رؤيته الموصوفة بالإصلاحية، هو مجرد نظرة استعلائية فاقدة للمضمون، وغير قابلة للتطبيق على الأرض، وتؤسس للانقسام والمواجهات المجتمعية الممتدة.
فقدان الحد الأدنى من التماسك بين العرقيات الإثيوبية، وفقدان بعضها الثقة فى المركز الفيدرالى يمهد بدوره إلى عزلة العرقيات والانزواء على الذات، وارتفاع المطالب بحق تقرير المصير، وهو ما يثير أسئلة كبرى حول مصير الدولة الإثيوبية لدى الكثير من دوائر صنع القرار الأفريقية والأوروبية، خاصة أن تعرُّض إثيوبيا وهى مقر منظمة الاتحاد الأفريقى إلى حالة عدم الاستقرار والمواجهات العرقية سيؤدى بدوره إلى تراجع دور ومكانة المنظمة الأفريقية كثيراً، بل ربما يتوقف الكثير من أنشطتها التى تنطلق من العاصمة الإثيوبية نفسها إذا اتسع نطاق المواجهات. وكلما فشل الاتحاد فى فرض دوره لحماية دولة المقر من الانزلاق إلى الفوضى، يصبح الحديث عن دوره فى بناء السلام وتدعيم الاستقرار والتعاون بين دول القارة مجرد لغو فارغ، ولا شك أن رئاسة الاتحاد تتحمل مسئولية كبرى ومعها القيادات الكبرى فى القارة فى الحفاظ على مكانته وعلى دوره فى منع الحروب سواء الأهلية أو بين بعض أعضائه. ولا سبيل سوى فرض صيغة للتدخل توقف الحرب الإثيوبية قبل أن تمتد إلى جوارها، وأن تحاصر الانتهاكات الإنسانية الكبرى المصاحبة لها. أو هكذا يفترض المنطق السياسى السليم.