كما تعانى عاصمتنا الجميلة قاهرة المعز والمدن الصغيرة والقرى والنجوع من العواصف الممطرة وأصوات الرعد وحبيبات الثلج الصغيرة، التى أصبحت جزءاً من شتاء كنا ننتظره للاستمتاع بشمسه الدافئة، إلا أنه تغير مثله كباقى فصول السنة مع ازدياد حجم ثقب الأوزون وأثره على المناخ العالمى. نعانى نحن البشر من نوع آخر خاص وقاسٍ وعنيف وهادر وكاسح ومن الصعب توقع موعد حدوثه أو حدّته، وربما هدوئه أو توقفه تماماً، وهو عواصف الذكريات. تلك التى تأتى كزلزال يهز قلوبنا ومشاعرنا وقدراتنا ويجعلنا ندور وندور وسط العاصفة التى غالباً ما نعجز عن مقاومتها وكأننا مدينة بلا مرافق ولا بنية تحتية ولا شبكات مياه وقد أصاب العطب أماكن تصريف مياه المطر فيها فتراكمت وتحولت إلى برك صناعية تحاصر المنازل والمنشآت وتصيبها بالشلل التام.
تهاجمنا عواصف الذكريات فتؤلمنا، وهو ما دفع العلماء والأطباء للبحث عن مخرج من هذه الأزمة وكان الحل من جامعة (موناش) بأستراليا، حيث أعلنت عن طلب متطوعين لإجراء أبحاث عليهم، حيث سجّلوا نشاط المخ أثناء خضوعهم للتجربة، التى تلخصت فى إعطائهم أوامر بتجاهل التفكير فى أشياء يتم تحديدها، وقد استخدموا تقنيات حديثة لرؤية ما يتخيله المتطوعون أثناء التجربة، التى حدّدوا لها كفترة زمنية ١٢ ثانية فقط.
وجاءت نتائج التجربة لتؤكد أن الذكريات المكبوتة توجد فى اللاوعى دون معرفة الشخص، لذلك فإن كبت الأفكار والذكريات المؤلمة وتجاهلها ليس هو الحل للتخلص منها، لأنها تظل فى العقل الباطن طالما بقيت مخزّنة فى المخ. ولاحظ الأطباء أن الذكريات المؤلمة تُخزّن فى النصف الأيسر من المخ والعكس بالنسبة للجزء الأيمن منه. وحالياً تجرى التجارب لإنتاج عقار يمكن أن يساعد على التخلص من الذكريات الحزينة، إلا أن هناك الكثير من الصعوبات التى تواجه إنتاج مثل هذا العقار، حيث من المقرر أن يخضع لمراحل طويلة من البحث على الحيوانات المعملية للتأكد من عدم تأثيره على الجانب المعرفى والإدراكى للإنسان، حتى لا يؤدى إلى ضعف قدرة الإنسان على الاحتفاظ بالمعلومات.
هل سينجح العلم والتكنولوجيا والعقاقير المركّبة والنّسب التقديرية لمحتواها على إيقاف تلك العواصف المدهشة؟ وأقول لكم إننى أتمنى فشل تلك الخطط تماماً، لأننى لا أستطيع أن أخرج من وسط العاصفة التى تقدم لى دائماً وبصفة دورية ألبوم صورى وتقويم حياتى وأوراقه تتبدّل وتتغير وعدد الأشخاص داخله يزداد وتتكور المجموعات فيه وتتلاحم بجمال وحب لإتاحة الفرصة لجميع الأحبة فى الظهور ودرجات حرارة قلبى وتقلباتها من البرودة للانتعاش للحرارة ولون السماء فى عيونى عندما تملأها دموع الوجع أو ضحكة الفرح أو لهفة اللقاء أو تعكس صورة صغيرى وأنيسى وطريقاً سرت فيه أعواماً وأعواماً، وكتاباً هو قصة حياتى، ومقعداً يحتضننى وأغوص داخله كما لو كنت بين ذراعى أمى.
وكيف لى أن أتأكد أن عقلى هو صورة من عقول هؤلاء الذين خضعوا للتجارب؟ وأن الجزء الأيسر يحمل الألم، بينما كل ما يسعدنى فى الجزء الأيمن، وهل ستتركز محتويات العقار الذى ينتظرونه فى صاروخ موجه للألم دون أن يخطئ اتجاهه، فتضيع منى ذكريات سعادتى وأفراحى ونجاحاتى وأفقد عاصفة الذكريات؟ أقول للعلماء لا للتجارب ولا لحذف ما لا يروق لكم، ومرحباً بأى صورة من صور الحياة.