لم نكد نتنفس الصعداء مع تواتر الأخبار المبشرة باقتراب طرح عدد من اللقاحات الخاصة بمرض كوفيد-19، حتى طل علينا علماء وخبراء وباحثون، محذرين من تعرض البشرية لوباء أكثر فتكاً من فيروس كورونا فى وقت قريب، وربما أقرب مما نتصور، وذلك بعد تنبؤات الملياردير الأمريكى، مؤسس شركة مايكروسوفت بيل جيتس منذ نحو خمس سنوات بتعرض البشرية لفيروس ربما كان أكثر خطورة من فيروس كورونا، ولعل تنبؤات بيل جيتس تؤخذ على محمل الجد، وهو ما حدث بالفعل بعد أن اجتاح فيروس كورونا المسبب لمرض كوفيد -19 العالم وشل حركته، وما زال الوباء يحصد الأرواح ويضاعف أعداد الإصابات والأنظار تتجه نحو اللقاحات الواعدة التى ستخفف من غلواء هذا الكابوس الذى لم ينته بعد.
لماذا بدأنا نسمع عن الأوبئة بشكل مكثف الآن؟ ولماذا تكثر التنبؤات بانتشارها الواسع فى الفترة المقبلة؟! هل لأن العالم تجاهل قانون الطبيعة وتجرأ عليه أكثر مما ينبغى؟ تجبّر وأطلق العنان لجنون التكنولوجيا الحديثة، والصناعات الثقيلة التى كانت سبباً مباشراً فى تغير المناخ وتلوث البيئة، ونحّى الصحة العامة جانباً فى سبيل السباق المحموم نحو التقدم فى العلوم الأخرى على حساب صحة البشرية؟! هل العلم الحديث سيدخل معركة وجودية مع تفشى ظاهرة الأوبئة فى المرحلة المقبلة؟ وهل سيسخّر جهوده وتقدمه فى استباق جوائح جديدة تنتظر كوكب الأرض؟ وما مدى استعداد العلم من خلال البحوث والدراسات فى التصدى لأمراض غريبة علينا بدأنا نسمع عنها بكثافة هذه الأيام؟ فعلى مدار الثلاثين عاماً الماضية زادت حالات تفشى الفيروسات القاتلة وأصبح انتشارها سريعاً، فكان أحدثها فيروس كورونا، الذى انتشر فى الصين وانتقل إلى عشرات الدول الأخرى، لكن الحقيقة البسيطة هى أننا نعيش على هذا الكوكب بكثافة سكانية أكبر من أى وقت مضى، إذ يبلغ عدد سكان العالم 7.7 مليار شخص، وهذا الرقم فى تصاعد مستمر، لذا فنحن نعيش أقرب فأقرب بعضنا لبعض، وكلما زاد عدد الأشخاص فى مساحات صغيرة، ارتفع خطر التعرض لمسببات الأمراض، وعلى الرغم من أن العالم على اتصال أكثر من أى وقت مضى، فإننا ما زلنا نفتقر إلى نظام صحى عالمى، يمكنه ردع هذه التهديدات فى مهدها. ولوقف تفشى المرض، يتم الاعتماد على سلطات البلد الذى يبدأ فيه الفيروس بالانتشار، وإذا فشلت فى ذلك، فسيصبح الكوكب بأكمله عرضة للخطر. أما إذا تفشت هذه الأوبئة فى المناطق الفقيرة ذات النظم الصحية الضعيفة، فلا يمكن احتواء الأمر ومعالجته بسهولة، فعدم وجود أنظمة لتوعية الناس بأهمية ووسائل النظافة والصرف الصحى، وكذلك الكثافة السكانية، كلها أسباب تزيد من خطر انتشارها، ورغم توافر التكنولوجيا اللازمة لتطوير الأدوية لدينا، والتى يمكن أن تُفشل نمو بعض هذه الفيروسات، فإن شركات الأدوية لا تستثمر فيها وفقاً لمنطق الربح والخسارة من إنتاجها.
وبخلاف التقصير الدولى فى دعم البحث العلمى مادياً، فإن انتشار الأوبئة يتسارع من خلال التقدم الهائل فى وسائل النقل بين دول العالم واختصار المسافات فى فترة زمنية قصيرة لتسافر من أقصى الأرض إلى أدناها فى غضون ساعات. لقد استفاق العالم على حقيقة مؤكدة استفاد منها فى كبوة جائحة كورونا، وهى ضرورة تدعيم البحث العلمى، والعمل الحثيث لتطوير الدراسات والأبحاث العلمية وتسخيرها لخدمة الإنسان، وخير مثال لتغير اهتمام العالم فى نظرته للبحث العلمى، هو اختبار كورونا، واستنفار شركات الأدوية والمعاهد الوطنية للبحث العلمى فى الدول الكبرى لتطوير لقاحات مضادة للفيروس، وهو ما حدث بالفعل فى سابقة هى الأولى فى تاريخ العلم الحديث أن ينتج لقاحات مضادة للفيروس فى فترة زمنية قصيرة لم تتعد العام، وهذا يؤكد أهمية البحث العلمى وضرورة تقديم الدعم المالى واللوجيستى له، حتى يكون قادراً على مواجهة أوبئة جديدة تنتظر كوكب الأرض الذى ما زال يخبئ لنا المزيد من المفاجآت والأسرار.