قبل رحيله عام 2008 بفترة قصيرة، قرأت حواراً مع المخرج الراحل يوسف شاهين، لم أعد أذكر منه شيئاً باستثناء فقرة واحدة فقط لم أستطِع أن أنسى مضمونها أبداً.. حيث تساءل الرجل: «أنا مندهش جداً من هؤلاء الكتَّاب الذين يبدأون مقالاتهم بجملة: لا أدرى ماذا أقول.. أو لا أعرف ماذا أكتب.. أو لا أفهم ما الذى يحدث.. إذا كان الكاتب لا يدرى ولا يعرف ولا يفهم، فلماذا يكتب؟.. أما وكثيرون يفعلون ذلك، فليس معقولاً أن أضيِّع وقتى وأقرأ لأشخاص لا يدرون ولا يعرفون ولا يفهمون».
ولأن الذاكرة خوانة، فأنا لم أعد أتذكر مناسبة هذا الكلام الذى قاله يوسف شاهين، ولا ما هو السؤال الذى طرحه الصحفى على المخرج الكبير فجاءت إجابته على هذا النحو.. ولكننى أعرف جيداً أن ما قاله شاهين كان دائماً يدور بينى وبين نفسى، كلما صادفتُ مقالاً لواحد من هؤلاء الكتّاب المزمنين وتحاملت على نفسى وقرأته، فإذا به عبارة عن «معجنة» هواجس أو خواطر لا رابط بينها غير أنها ثرثرة مصاطب، أو أن كاتبها مضطر إلى دلقها على الورق لمجرد أن هناك من يضغطون عليه للكتابة بانتظام، وهو غير مؤهل لها على الإطلاق. وما زلت أذكر جيداً كيف أن أحد هؤلاء الكتَّاب توقف عن الكتابة لأسبوعين قضاهما فى المصيف، وعندما استأنف مقالاته التافهة راح يحكى للقراء أنه حائر عن ماذا يكتب، وخصوصاً أنه عائد من إجازة ممتعة، ثم راح يُشرك القراء معه فى علاج حيرته: «هل أكتب مثلاً عن انهيار مستوى التعليم وعن الدروس الخصوصية.. أم أكتب عن المطبات الصناعية على الطرق التى تتسبب فى الكثير من الحوادث؟.. أم أكتب عن ارتفاع معدلات الطلاق؟.. ثم إذا به يُنهى مقاله بأن كل سؤال من هذه الأسئلة يحتاج إلى عدة مقالات لكى ينتبه المسئولون والمواطنون إلى خطورتها!
شىء من هذا القبيل انتقل من أعمدة وصفحات الرأى فى الصحف إلى العديد من البرامج التليفزيونية.. فلا يكاد يمر شهر واحد دون أن أتلقى دعوة أو أكثر للمشاركة فى برنامج تليفزيونى، ودائماً ما أسأل الزملاء عن موضوع ومحاور الحلقة التى سأشارك فيها، وفى كل مرة -ودون استثناء واحد- تأتينى الإجابة: «يعنى.. هنتكلم عن المشهد السياسى الراهن».. وأعود لأسأل: عن أى شىء فى هذا المشهد سنتحدث؟.. هل هناك قضية محددة؟. فتأتينى الإجابة مجدداً: «لا يا ريس.. المشهد كله على بعضه.. حضرتك يا ريس تقدر تتكلم فى كل حاجة.. هى الحقيقة مفيش موضوع معين.. بس الأحداث على الساحة حضرتك عارفها وتقدر تتكلم فيها». وبعد أن يضيق صدرى من هذه المعاجن الكلامية التى انتقلت من المصاطب إلى الكثير من البرامج التليفزيونية.. أستأذن محدثى بأن يرسل لى «سكريبت الفقرة» كاملاً، وسوف أعاود الاتصال به بعد الاطلاع على الـ«سكريبت».. ودائماً يحدث ما أتوقعه: لا شىء يأتينى ولا أعاود الاتصال بأحد، ولا أحد يعاود الاتصال بشخص يبدو أنه أصبح «دَقَّة قديمة».
قبل أكثر من عشر سنوات، كنت قد أدركت أن مهنة الكتابة خصوصاً -ومهنة الإعلام عموماً- أوشكت على الدخول فى أزمة خطيرة، وهى أزمة لا أجد فى وصفها أروع ولا أدق مما كتبه عنها الكاتب العملاق الأستاذ محمد حسنين هيكل عام 1996، عندما طلب منه العالِم المصرى الفذ الدكتور رشدى سعيد أن يكتب مقدمة لكتابه «الحقيقة والوهم فى الواقع المصرى».. فكتب الأستاذ هيكل مقدمة بديعة قال فيها.. من بين ما قال: إن مصر عانت، وما زالت تعانى، من مشكلة خطيرة مؤداها «أن كثيرين من الذين ليس لديهم ما يقولونه فى شئون هذا البلد وشجونه لا يكفّون عن الكلام.. بينما الذين لديهم ما يقولونه لا يملكون فرصة كافية لقوله»!.
والحقيقة أن السنوات العشر الماضية شهدت ما هو أسوأ كثيراً من الوضع الذى وصفه الأستاذ هيكل، عندما تفشت ظاهرة حسناوات الفيس بوك اللاتى كن يكتبن «بوستات» خفيفة على حسابهن مقترنة بصورهن الجميلة، ولا يعرف سوى الله -والشيطان أيضاً- كيف انتقلت هذه «البوستات» من الفيس بوك إلى الصحف ومواقعها الإلكترونية، وكيف صحَونا على دور نشر «محترمة» خصصت جزءاً مهماً من إصداراتها لهذه النوعية التافهة من الكتابات.. ثم إذا بنا أمام «ماسورة صرف إبداعى» وقد انفجرت فى فضائنا الثقافى والمعرفى، ولا يكاد يمر أسبوع واحد حتى نفاجأ بحفل توقيع كتاب من هذه النوعية، تقف فيه «الحسناء» بين معجبيها وطالبى القرب منها لتوقع لهم على النسخ المشتراة!.
واللافت فى الأمر كله، أن كثيرين ممن لديهم ما يقولونه، ولديهم ما يعنينا أن نعرفه، باتوا محاصرين بضجيج الكتابات الفارغة أو بصخب اللت والعجن فى «المشهد السياسى الراهن».. وأصبح وجود «الكتابة الخبيرة».. أو «الكتابة الجميلة» خافتاً وضائعاً مثل وجود الأيتام على موائد اللئام.