بالغ المصريون فى وصف من ترك أرضه للبوار بأوصاف تربط بين «التفريط فى الأرض والتفريط فى العرض»، لكن أحداً لم يتفرغ لرصد بدايات تنفيذ المخطط الإجرامى لتدمير ملف الزراعة المصرية عامة، بداية من جمع معلومات كل شبر زراعى فيها، ونهاية ببيع شركة «نوباسيد» لإنتاج البذور، وما بين الجريمتين شطب ميزانيات البحث العلمى، وإهمال مشاريع الصرف الزراعى، لينتهى الأمر بهزال الأرض وإفقار زارعها.
- جمع البيانات والمعلومات عن التربة الزراعية المصرية، تم فى غفلة من مسئولينا الزراعيين، حيث حدث وسط زحام المنح والمشاريع الأجنبية، بالطريقة التى أشار إليها القرصان الأمريكى «جون بركنز» فى كتابه الشهير «الإغراق الاقتصادى للأمم.. اعترافات قرصان أمريكى تائب»، وكان الهدف المعلن من هذه المشاريع: تحديد احتياجات التربة، وفقاً لطبيعتها الفيزيقية والكيميائية، لكن تبين بعد مرور الزمن أن الهدف الحقيقى كان التعرف على أسرارها وسبر أغوارها لأهداف تخص المانحين شكلاً، والطامعين موضوعاً، وبعد نحو 33 عاماً أصبح مشروع الصرف المغطى كمثال، «عاهة مستعصية فى باطن عجوز، أعياها الإنجاب المتكرر»، وأصبحت آفة «النيماتودا» المدمرة كائناً من ضمن مكونات التربة الزراعية المصرية.
- والصرف الزراعى لمن لا يعرف، مثل الجهاز البولى للإنسان، وإهماله تسبب فعلاً فى احتباس ماء الرى فى التربة، ما أدى إلى تراجع الأكسجين، ومعه موت الأحياء الدقيقة النافعة، ثم تراكم الأملاح، وبالتالى هدم مكوناتها الطبيعية وتصحرها بالمفهوم العلمى للتصحّر.
- أما بيع «نوباسيد»، فلم يكن حلقة عادية ضمن مسلسل بيع ممتلكات القطاع العام، لكن الواضح أنه تم تخريبها أولاً بعد أن نجحت فى إنتاج نحو 60٪ من بذور تقاوى الخضر فى مصر، وصدر القرار ببيع أرض الشركة التى أنشئت لهذا الغرض تحت راية وزارة الزراعة، لتقع أكبر دولة منتجة للزراعة فى الشرق الأوسط تحت رحمة كيانات أجنبية تقود ملفها الزراعى على هواها، وليس على ما يريده باحثوها ومزارعوها.
- وبفتح ملف ميزانيات البحث العلمى، يكفى أن يطلب صانع القرار فى مصر، رئيس مركز البحوث الزراعية الحالى، لمناقشته فى الموازنة العامة الموجهة للبحوث العلمية فى المركز، منذ أكثر من ستة أعوام، أى منذ أن تبرّع أحد الوزراء السابقين للوزارة المكلومة باقتراح يفيد بأن تعيش على حسابها، وكأنها شابة تخرجت من عِصمة أبيها ووجب أن تعتمد على نفسها فى تدبير نفقات معيشتها وبناء مستقبلها، فانقطع المدد نهائياً عن «الزراعة»، لنقرأ عن خفض ميزانية مركز البحوث من 2 مليار جنيه فى عهد المرحوم المظلوم يوسف والى، إلى 3 ملايين جنيه فقط خلال أعوام 17، و18، و19، قبل أن تعود للارتفاع إلى 136 مليون جنيه عام 2020، لتظل غير كافية لسداد فواتير كهرباء وغاز المعامل البحثية فى معاهد ووحدات ومحطات المركز.
- المتبرعون بالاقتراحات المسمومة لولى الأمر، زينوا أفكارهم القاصرة بدعوى أن مركز البحوث الزراعية، ومثيله مركز بحوث الصحراء، ما هما إلا تجمعان مريضان لكيانات وظيفية ثقيلة الحمل على كاهل الدولة المصرية، وأن لديهما وحدات ذات طابع خاص تُدِر أموالاً، يجب أن تغطى نفقات البحث العلمى، وهم لا يعلمون قطعاً أن روشتة علاج عيب واحد من عيوب التربة تتطلب مليارات، وأن تربية صنف نباتى (حبوب أو خضر أو فاكهة)، قد تتطلب عشرة أعوام وعشرات الملايين سنوياً، لتظل التربة مريضة، وبرامج إنتاج التقاوى «حبراً على ورق»، واجتهادات فردية لباحثين يدعمهم القطاع الخاص.
- وملف التقاوى ليس بمنأى عن تدمير المهد الصالح لإنباتها، حيث تم تهريب بذور معدلة وراثياً، وغيرها مصابة بجراثيم سامة على مدار العقدين الأخيرين، تسببت فى إصابة التربة بالعديد من الأمراض المنقولة، ومنها المسرطنة، كما ظهرت أخيراً بذور خضر معيبة تُنتِج مجموعاً خضرياً، ولا تزهر ولا تثمر، وقد تكون مجرد وسيلة لنشر أمراض تهدد الصحة النباتية.
- الغريب فى أمر ملف البذور، تلك المبادرة التى أطلقها رئيس الجمهورية لتنفيذ برنامج وطنى لإنتاج تقاوى الخضر، وتجاوب مركز البحوث الزراعية مع المبادرة الرئاسية التى استهدفت توفير نحو مليارى دولار سنوياً لخزانة الدولة، تستورد بها مصر تقاوى أجنبية، وفجأة يصل البرنامج إلى طريق مسدودة بحجج تتنافى مع تصريحات المسئولين عنه.
- هذا البرنامج قدمه عالم مصرى ملخصاً فى دراسة بآليات تنفيذ حقيقية إلى رئيس مركز البحوث، وإلى وزير الزراعة، بعد أن وعده الأخير فى اجتماع مشهود بتوفير الميزانية والإمكانيات المطلوبة، وكان من ضمن بنود الدراسة: تخصيص محطة بحثية متكاملة فى النوبارية لتكون مدينة إنتاج بذور مصرية، وتوفير نحو 20٪ من احتياجاتنا المحلية خلال الأعوام الثلاثة الأولى، مع الاستمرار فى خطة الاكتفاء الذاتى والتصدير، لكن الحلم تم إجهاضه بفعل فاعل مجهول للجميع.
- الأمل المنشود: أن يصل صانع القرار ذات يوم إلى الفاعل المجهول الذى بدا أنه يزين وجه الحياة بخيال واسع، لكنه يحقن السم فى العسل بإمعان شديد.