أغلب الأحكام فى القرآن الكريم اجتهادية، لأن الأصل فى التشريع المرونة، ومرونة التشريع أولوياتها مصالح المجتمعات.. مهما تغيَّرت الأزمان.
التطور المستمر أبرز صفات المجتمعات منذ خلق الله الأرض. وقد قابل الله تعالى سُنة التغيير فى خلقه بقابلية النص القرآنى الدائمة لإعادة التأويل، ولا تأويل بغير اجتهاد.
الأمثلة كثيرة.. خُد عندك: فى فترةٍ ما لم يجِز الفقه قراءة القرآن مقابل أجر، لكن لما تغيرت الظروف، وفتح المسلمون بلاداً لا تتكلم العربية، أباح الفقه قراءة القرآن نظير مال، والغرض كان نشر آياته وتشجيع تلاوته.
فترات أخرى كان مباحاً بنص القرآن الكريم شهادة الأقارب لبعضهم، لكن مع تغيُّر العصور، وفساد الذمم، تدخل الفقه مرة أخرى، ليبطل شهادة الفروع للأصول والعكس.. ثم أبطل شهادة الزوجين لأحدهما أو عليه.
كثير من أحكام الله صدرت معلَّلة أو مسبَّبة. يعنى إيه؟ يعنى محاطة بظروف وأسباب تؤيد الحكم الشرعى وتوجبه، لكن لو تبدلت الظروف وتغيرت الأسباب، فما الذى يمنع المسلمين من تغيير الحكم أو توقيفه.. أو إعادة النظر فيه؟
فهم المسلمون الأوائل روح النص بصلاحيته لكل مكان ومكان. هذه هى مرونة النص كما فهمها المسلمون الأوائل، وكما فهمها الصحابة رضوان الله عليهم، ثم فهمها التابعون وتابعو التابعين. وهو ما دفع بعض أهل الفقه الإسلامى فى أزمان متأخرة لاعتبار قاعدة «جواز تغير الأحكام بتغير الأزمان».
عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- فى خلافته عمل وفقاً لمبدأ أن المصلحة هى أساس الأحكام الشرعية، لذلك أوقف «عمر» العمل بحكم آية المؤلفة قلوبهم، فأوقف حكماً أقره القرآن!
فطن «عمر» أنه حتى الحكم القرآنى فيه من المرونة ما يجيز توقيفه طبقاً للمصلحة. وحيثما توجد المصلحة.. ثمة شرع الله، فلو تعارضت المصلحة، مع نص، فإن المصلحة تقتضى إعادة تأويل النص.
فهم عمر -رضى الله عنه- أن علة (أو سبب سهم المؤلفة) نزل فى حياة النبى صلى الله عليه وسلم فترة ضعف الدولة الإسلامية ووهنها، لذلك نص القرآن الكريم على سهم المؤلفة، وأمر بمنح جزء من أموال المسلمين لقبائل مجاورة تحييداً لهم وتأليفها لقلوبهم، حتى لو لم يكونوا مسلمين.
لكن لما تولى «عمر» الخلافة، كانت الدولة الإسلامية قد تغيرت وقويت شوكتها، لذلك سقط -فى رأيه- السبب فى منح أموال للمؤلفة قلوبهم.. وكان عنده حق.
فهم عمر -رضى الله عنه- روح النص، ومقصد التشريع، وأسباب النزول، وفطن أن الزمن تخطى الحكم الشرعى بسهم المؤلفة قلوبهم، وأن الظروف التى نزل فيها النص الكريم تغيرت، فبات ممكناً العدول عن حكم شرعى وارد بنص.. حتى ولو كان قطعى الثبوت قطعى الدلالة.
فطن «عمر» أن الوقت قد حان لكى يكون المسلمون أوْلى بأموالهم، بعدما باتوا أقوى على رد الاعتداء، وأقوى على دفع أى تجاوز من أية قبيلة. كانت الدولة الإسلامية قد وصلت إلى حد من القدرة على تأديب المؤلفة قلوبهم لو اعتدوا.. لا إعطاؤهم مالاً!!
فأبطل منح المؤلفة قلوبهم مالاً!