فى لقاء الرئيس السيسى مع رؤساء تحرير الصحف بأنواعها القومية والحزبية والخاصة، شدد على أهمية وخطورة البرلمان المقبل، باعتباره الغرفة التشريعية التى سوف تحول مبادئ دستور 2014 إلى قوانين ملزمة للكافة، ولكونه أيضاً فرصة لتأمين ظهير سياسى للدولة المصرية التى يمثلها الآن الرئيس السيسى نفسه ومشروعه لإعادة بناء مصر واقتحام مشكلاتها العتيقة والحفاظ على أذرعها الممثلة فى المؤسسات الرئيسية لأية دولة فاعلة.
وفى مقالات سابقة نُشرت فى صحيفة «الوطن» الغراء أشرنا إلى معضلة تشكيل برلمان متماسك وقادر على إتمام مهمة إقرار التشريعات اللازمة، وأن هذه المعضلة مرتبطة أساساً بمدى فعالية القوى السياسية المدنية فى صورة تكتل حزبى منضبط، بحيث يمكنها من الحصول على الأغلبية العددية فى حدود الثلثين أو أكثر قليلاً، ومن ثم تؤدى واجبها بقدر من السلاسة والاستمرارية. ومعنى الفعالية بالنسبة للحزب السياسى يتلخص فى ثلاثة شروط لا غنى عن أى منها؛ الأول: برنامج سياسى واضح المعالم يقدم رؤية للحاضر والمستقبل، وقابل للتحقق عبر سياسات واضحة وموارد متوافرة، والثانى: بناء تنظيمى محكم مشفوع بكوادر حزبية تؤمن بفلسفة الحزب ورؤيته وتعمل بين الناس، والثالث: شعبية تمتد فى ربوع الوطن كله وتتغلغل بين طبقات الشعب وفئاته المختلفة. وهى شروط كفيلة بأن يكون الحزب دائم الحضور فى البرلمان وقادراً على القيادة والمشاركة فى الحكم، وينافس دائماً ليصبح الحزب الحاكم.
وإذا تمعنا فى الخريطة الحزبية الراهنة سنجد من الصعوبة بمكان توافر العناصر الثلاثة فى حزب أو أكثر، وفى أفضل الأحوال قد يتوافر عنصران بصورة نسبية فى عدد محدود من الأحزاب لا سيما ذات التاريخ، وهو ما يشكل ضربة للحياة الحزبية ككل. وهنا تظهر إشكالية حزب النور السلفى الذى يمثل هاجساً للقوى المدنية، ويتخوف كثيرون من قدرته على توظيف تدين المصريين وبساطة تفكير الغالبية العظمى فى تحقيق نسبة تقترب من الثلث أو أكثر من عدد مقاعد البرلمان، وإذا أمكن لعدد آخر من المتعاطين مع الإسلام السياسى أو كانوا امتداداً غير مباشر للجماعة الإرهابية فى الحصول على عضوية البرلمان، فسوف تصبح مهمة الأحزاب المدنية التى ترى نفسها بمثابة ظهير سياسى للدولة المصرية ورئيسها «السيسى» مهمة ثقيلة وقد تبوء بالفشل، وندخل جميعاً فى دوامة من الصعب التنبؤ بمساراتها المحتملة. إذن المسألة تكمن فى الشعبية والانتشار والقدرة على ترشيح كوادر حزبية تستطيع الفوز بمقاعد البرلمان، ومن اليسير الإشارة هنا إلى أن تعبير الكوادر الحزبية يعنى الكفاءات الحزبية ذات الشعبية والمتمرسة على المواجهات الانتخابية، والقادرة على اقتناص أصوات الناخبين، ولديها إمكانات التواصل مع المواطنين والمناورة مع المنافسين، وهذه أمور لا تأتى إلا من خلال تجارب سابقة مزجت بين الفشل والنجاح. وفى تاريخنا المعاصر هناك ثلاث قوى لديها مثل هؤلاء الكوادر الحزبية، أولها: الحزب الوطنى المنحل، الذى حكم مصر قرابة 40 عاماً، وامتزج بالإدارة المحلية وشكل أسلوباً حزبياً فريداً جمع بين الحزب السياسى شكلاً، والفردية الحاكمة مضموناً، فى إطار تسلطى عام. وثانيها: الجماعة الإرهابية قبل أن تفصح عن وجهها الحقيقى فى العنف والإرهاب وكراهية الوطن والتلذذ بتدميره وتخريبه، حيث كانت تبرع فى استقطاب أصوات الناخبين البسطاء عبر أكياس الطعام وبعض النقود ممزوجة بشعارات دينية تدغدغ مشاعر البسطاء الحالمين بدولة عدل مطلق برداء دينى. وثالثها: عناصر ذات أصول نقابية يسارية أو ليبرالية تمرنت فى اختبارات النقابات ثم تحولت إلى انتخابات البرلمان فكانت تفوز بحكم الخبرة بألاعيب الانتخابات وبعض شعارات اجتماعية براقة. وبينما خرجت كوادر الحزب الوطنى من ساحة المنافسة بحكم قضائى حل الحزب ومنع وجوده العضوى، بعد أسابيع قليلة من انتفاضة المصريين فى 25 يناير 2011، إلا أن توافر خبرات انتخابية للبعض منهم مشفوعة بسيرة شخصية حسنة وبقدر مضمون من الشعبية فى الإطار المحلى أدى إلى تغيير توجهات العديد من الأحزاب تجاه مثل هؤلاء الكوادر، خاصة بعد أن شارك الكثيرون منهم بدور مؤثر فى إسقاط حكم الإخوان والحفاظ على مصر ومؤسساتها. وبينما كانت الدعوة إلى الإقصاء الكامل لكل عناصر الحزب الوطنى المنحل هى دليل النقاء الثورى والتعبير العملى عن الانفصال الكامل عن حقبة «مبارك»، نشهد اليوم لهجة جديدة تتحدث بها كافة القوى السياسية تقريباً فيما عدا أنصار الحركات الاحتجاجية المتمردين على الدولة ذاتها، وهى فكرة لها صدى فى دستور 2014، تدعو إلى عدم إقصاء أى طرف ما دام يؤمن بثورتى 25 يناير و30 يونيو، ولم يتورط فى فساد قط، ولا يُحسب على نخبة الحزب الوطنى المحدودة التى دارت فى فلك «مبارك» وولديه وحكمت وخربت الوطن ككل.
مثل هذه اللهجة تعكس قناعة عملية بأن الضرورات تبيح المحظورات، وأن ما كان يصلح قبل ثلاث سنوات لم يعد يصلح فى هذه المرحلة التى يبحث فيها الجميع عن الفوز بنسبة كبيرة من مقاعد البرلمان، حتى يمكنه أن يتحول إلى رقم رئيسى فى معادلات السياسة والحكم فى السنوات الأربع المقبلة. والمفارقة هنا أن الساعين لتحالفات مع كوادر من الحزب الوطنى المنحل هم من كل التيارات تقريباً لا فرق بين يسارى أو ليبرالى أو إسلامى. ولعل ذلك يجد تفسيره فى أن الحزب الوطنى نفسه لم يكن يمثل حزباً أيديولوجياً منضبطاً فكرياً، بل كان أقرب إلى مظلة واسعة تجمع بين تيارات سياسية عديدة؛ ما بين الإصلاحيين والناصريين والليبراليين والقوميين والإسلاميين المعتدلين والأعضاء الذين يرون فى عضوية الحزب مجرد إضافة قد توفر بعض مصالح أو تيسر حاجة ملحة فى أروقة البيروقراطية العتيقة، الأمر الذى يجعل من الطبيعى أن يكون هناك كوادر كانت محسوبة على الحزب الوطنى المنحل، وقابلة للتعامل مع أى فصيل سياسى موجود على الساحة فى اللحظة الجارية. والمهم فى هذا المشهد أن التعامل مع هؤلاء هو تعامل مع أشخاص قبل أى شىء آخر، ولا يعنى بأى حال نوعاً من التسامح مع الحزب الوطنى نفسه وتجربته المريرة فى حكم مصر.