إنه الشهر الكريم، فلتفتح أبواب الجنة، ولتغلق أبواب النار، ولتصفد الشياطين، ولتستولى إعلانات التسول والتبرع للمؤسسات الطبية والخيرية على نصف المساحة الإعلانية فى مصر تقريباً!
لا شك أن حرفية تلك النوعية من الإعلانات التى تطلب منك أن تتبرع لمساندة هذا المشروع أو تلك المؤسسة قد وصلت لمستويات مرتفعة بالفعل، فالكل قد انتظر «صهيبة» كى يعرف ماذا حدث لها هذا العام، التى كانت كل أمنياتها فى العام الماضى أنها «عاوزة تعيش»!
وفى نفس الوقت أيضا، لا أحد يستطيع أن ينكر أن المؤسسات التى تعلن عن حاجتها للتبرع فى هذا الشهر الكريم تعتبر هى النقاط المضيئة فى هذا البلد، فعدد المواطنين المستفيدين من خدماتها كبير بالفعل، والخدمات التى تقدمها مميزة، هذه حقيقة، بل والفكرة فى حد ذاتها -أن يكون هناك مشروع قومى يلتف حوله المواطنون- لهى أمر عظيم.
ولكن السؤال الذى يبرز وبشدة هو لماذا لا ينجح شىء إلا إذا اعتمد على التبرعات؟ وهل يصلح أن تكون هذه هى القاعدة؟
فطبقاً لإعلانات التليفزيون هذا العام، فالمواطن المصرى ينبغى عليه أن يتبرع لمستشفى سرطان الأطفال، ومعهد الأورام القومى، ومستشفى الدكتور مجدى يعقوب، وقصر العينى، وجامعة زويل، وجمعية الأورمان ورسالة، وأيضاً ينبغى له أن يستبقى مبلغاً للتبرع فى صندوق «تحيا مصر» لدعم الاقتصاد!
باختصار يحتاج المواطن لضعف دخله الطبيعى تقريباً ليساهم فى كل هذه المشروعات خلال شهر رمضان فقط، فما الوضع خلال باقى شهور العام؟
المشكلة أن المواطن بهذه الطريقة قد أصبح مسئولاً عن الصحة، والتعليم، وعلاج البطالة، ودعم الاقتصاد... هذا جيد، ولكن إذا كان المواطن هو من سيتولى هذه الملفات فماذا ستفعل الحكومة؟!
إن فكرة وجود الحكومات تقوم على وجود هيئة منظمة تستطيع تنظيم الإنفاق على المشروعات الخدمية المختلفة، وتوزيع الميزانيات المتاحة طبقاً للاحتياجات المتعددة، وحقيقة أن كل المشروعات الناجحة على أرض المحروسة قائمة على التبرعات وخارج السيطرة الحكومية إنما هو دليل مادى واضح على فشل ذريع للمنظومة الإدارية بالكامل.
ليس سيئاً أن يتعاون المجتمع المدنى مع الحكومة للإنفاق على «بعض» المشروعات، ولكن أن يكون الأساس هو المجتمع بينما تجلس الحكومة فى مقعد المتفرجين لهو أمر هزلى. ليس صحياً أن نعيش فى وطن يعتمد فى حياته وبقائه على التبرعات!
الطريف فى الأمر أن المتأمل فى إعلانات هذا العام تحديداً سوف يدهشه التناقض الغريب بين إعلانات الجوع وإعلانات المنتجعات السياحية الفاخرة التى -ولسبب ما- يتزامن عرضها فى نفس التوقيت تقريباً. فمن يطلبون منك أن تتبرع ولو بجنيه ينفقون الآلاف من هذا الجنيه ليحجزوا لهم موقعاً فى هذا المنتجع!
إن الدولة التى تحمل على أرضها من يستطيع إنشاء مثل تلك المشروعات، بل وتحمل المواطنين الذين سيقومون بشراء تلك الوحدات السكنية أو المصيفية - تمتلك بالتأكيد من حصيلة ضرائبها ما يجعلها تستطيع الإنفاق على من لا يملك قوت يومه أو من لا يستطيع تحمل نفقات علاجه، وعدم قدرة الدولة على الإنفاق وتنظيم أوجه الصرف على مثل هذه المشروعات ينسف الحاجة لوجودها من الأساس. إعادة توزيع الموارد مع تفعيل دور الحكومة فى توزيعها طبقاً للأولويات هو الضرورة القصوى خلال الفترة المقبلة، والاعتماد على التبرعات ينبغى أن يقتصر على الأفكار التى خارج الصندوق فحسب.
وإلا يوماً ما سيخرج أصحاب إعلانات الجوع على أصحاب إعلانات المنتجعات السياحية ليأكلوهم!
أفيقوا.. يرحمكم الله!