فى الأسابيع الماضية، ظهرت بعض مؤشرات إيجابية للتحرك المصرى عربياً وإقليمياً، نشير هنا إلى ثلاثة تحركات، أولها زيارة وزير الخارجية سامح شكرى إلى العراق، وفيها أكد ضرورة التوافق الداخلى واحترام التكامل الإقليمى للعراق والوقوف ضد جماعات التكفير والعنف. وثانيها مشاركة مصر فى اجتماع إقليمى فى تونس اختص بالوضع فى ليبيا وبسيطرة الدول المجاورة لها على الحدود المشتركة، وثالثها مبادرة مصر لوقف العدوان الإسرائيلى على غزة، والتى أعلن عنها فى اجتماع وزراء الخارجية العرب، وسبقتها اتصالات مع كل من واشنطن وبرلين وكندا. وتتوالى المؤشرات على أن الطرفين الإسرائيلى وحركة حماس بغزة سوف يقبلان بالخطة المصرية، لأنها تشكل لهما أرضية مناسبة للتراجع واستعادة الهدوء وإن بضوابط معينة.
التحركات المصرية الثلاثة تكشف عن عودة مصر إلى ملعبها الطبيعى عبر الاشتباك الإيجابى مع القضايا المحورية التى تهز المنطقة واستقرارها وتؤثر بشكل مباشر على المصالح العليا لمصر. وكل من التحركات المشار إليها ذو قيمة بالنسبة للقاهرة، كما هو مرتبط بمصالح حيوية لا يمكن التضحية بها كرفض تقسيم الدول، والتمسك بصيغة شاملة للسلام العربى الإسرائيلى، والإصرار على مواجهة جماعات التطرف الإسلامى. والبديهى أن احترام التكامل الإقليمى للعراق لن يتم إلا عبر توافق عراقى تسنده حكومة فاعلة ومؤسسات قادرة على التعبير عن الدولة العراقية والمجتمع العراقى بكل أطيافه دون إقصاء أو استعداء. وأعتقد أن مصر مثل دول أخرى تستشعر خطر تحلل مؤسسات الدولة العراقية، وكذلك خطر انتصارات «داعش» وإعلانها دولة خلافة على أجزاء من العراق وسوريا، ويزداد الخطر مع تأكد وجود علاقة استراتيجية بين منظمات مقاومة بعثية وسنية تستهدف الرد على إقصاء حكومة المالكى للمجتمع السنى العراقى ككل من جانب، وبين منظمة «داعش» الجهادية التكفيرية من جانب آخر، وهى العلاقة التى أعلن عنها عزة الدورى، الرمز الأكبر المتبقى من نظام صدام حسين، والذى يقود ما يعرف المقاومة السنية ضد الاحتلال الفارسى الصفوى فى إشارة إلى النفوذ الإيرانى الغالب فى العراق وحكومة نورى المالكى ذات النزعة الطائفية البغيضة. ومكمن الخطورة فى هكذا تحالف يكمن فى أن المناطق السنية إن انفصلت عن العراق الكبير بمساعدة داعش، فسوف تكون مرتعاً للجماعات التكفيرية والجهادية، وسوف يمتد تأثيرها حتماً إلى العالم العربى ككل. وفى كل الأحوال سنكون أمام فأل سيئ بالنسبة لمستقبل المنطقة.
ومع اعترافنا بأن إعلان دولة الخلافة الداعشية فى أجزاء من العراق لن ينتج دولة جديدة بالفعل، ولكنه على الأقل يرسخ مؤشرات تقسيم العراق بين سنة وشيعة وعرب وأكراد، وهو مربط الفرس فى الانزعاج المصرى جنباً إلى الانزعاج من التأثيرات المعنوية للانتصارات الداعشية على الحركات والمجموعات الجهادية التكفيرية فى مناطق عربية أخرى، كسيناء على سبيل المثال. واستطراداً للقلق المصرى من تقسيم دولة العراق وما يؤدى إليه بالمزيد من الانهيارات العربية بالمعنى الاستراتيجى، هناك القلق المباشر مما يجرى فى ليبيا، حيث تترسخ يومياً عوامل انهيار الحكومة المركزية وزيادة سطوة الجماعات المسلحة ومنها الجماعات التكفيرية والجهادية والإخوانية، وكلها تضمر الشر لمصر. وليس بخافٍ على أحد أن هذه الجماعات الجهادية الليبية على تواصل مباشر بدولة «داعش» التى تسعى إلى أن يكون لديها موطئ قدم فى ليبيا تتخذه لاحقاً منصة للانطلاق على مصر، وفقاً لما أعلنته بيانات داعش نفسها فى أكثر من موقع إخبارى وثيق الصلة بالحركات الجهادية. الأمر الذى تتخذه مصر مأخذ الجد وتحسب له ألف حساب، ومن ثم تتحرك وتشارك فى مسارات عدة محلياً وعربياً لإحكام السيطرة على الحدود الليبية لمنع تهريب الأسلحة والأفراد.
أما المبادرة المصرية بشأن وقف العدوان الإسرائيلى على غزة، فقد عبرت عن دور مصرى تقليدى، تكرر عشرات المرات من قبل استناداً إلى قناعات راسخة بأن قضية فلسطين هى القضية المحورية الأولى للعرب، فضلاً عن قناعة أخرى بأن القضية الفلسطينية تمثل لمصر أمناً قومياً بالمعنى المباشر، الأمر الذى يستدعى تحركات فاعلة تنتهى غالباً بوثيقة تعدها مصر مرفقة بضمانات حول انتهاء العدوان الإسرائيلى يتلوها فترة من الهدوء، ثم تنظيم جزئى لفتح المعابر بين غزة والأرض الفلسطينية المحتلة، ثم تعود الكرة من جديد بعد فترة من الزمن. وهو مشهد سوف يتكرر مرات أخرى فى المستقبل إذا لم يتم تحقيق اختراق جاد على صعيد المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية.
ومن الواضح أن التحركات المصرية عربياً وإقليمياً تستند أساساً إلى عناصر القوة الناعمة، وتحديداً خبرات الدبلوماسية المصرية التى تشكل مدرسة مرموقة، والتى يرافقها ظهير إعلامى معقول، وهو الأمر الذى يعوض مصر عما تواجهه من صعوبات وتحديات جسيمة فى عوامل القوة الصلبة كالاقتصاد والإدارة والمشاركة السياسية. والعوامل الأخيرة بجوار عنصر القوة العسكرية هى التى تحدد شكل الريادة ومدى القدرة على تحمل الأعباء وحتى أى زمن مقبل. وبالتالى فإن استعادة الريادة المصرية إقليمياً لن يحقق اختراقات مهمة إلا بعد أن يكون لمصر نموذج سياسى واقتصادى يغرى آخرين باتباعه بكل سلمية ووعى. فالأصل فى كفاءة القوة الناعمة للدولة مرتبط أساسا بمدى كفاءة الاقتصاد والإدارة واتساع مساحة المشاركة وهكذا. والأمر على هذا النحو يفرض على مصر أولاً حكومة وشعباً التفكير فى النظام السياسى الذى يجب أن تكون عليه مصر. وبالرغم من أن دستور 2014 مُحمل بكم كبير من المبادئ التى تؤسس لنظام سياسى فاعل، فإن العبرة هنا هى فى اللحظة التى نصل إليها وقد صار لدينا نظام سياسى كفؤ يتسم بالديمقراطية وعدالة التوزيع والإنصاف فى الفرص. ومن الواضح أن هذه اللحظة مؤجلة لبعض الوقت نتيجة التراكمات التى تشكلت على مدى زمنى يفوق النصف قرن، والتى بدورها تتطلب جهوداً هائلة من أجل معالجتها سلوكياً وتشريعياً.
وخلاصة الأمر أن طموحنا باستعادة ريادة إقليمية فاعلة مرتبط أساساً بمدى نجاحنا كشعب قبل الحكومة فى إدراك وتقبل التضحيات التى يتطلبها إعادة البناء والنهوض بعد مرحلة من التعثر والتراجع، إذ مهما كانت عناصر القوة الناعمة والنفوذ المعنوى، فلن تؤتى ثمارها من حيث التأثير والانتشار إلا إذا كانت مصحوبة بقوة صلبة ونظام سياسى فاعل وديناميكى فى الداخل، وتكون لديه قدرة طبيعية على تفعيل قواه الناعمة بكل أريحية فى الخارج.