كنت أؤدى امتحان اللغة الفرنسية بالسنة الثانية الثانوية بالنظام القديم، الذى كانت دراسة الثانوى فيه خمس سنوات بعد المرحلة الابتدائية التى كانت أربع سنوات.. وكانت السنة الرابعة فى المرحلة الثانوية شهادة تسمى «الثقافة العامة»، تتلوها شهادة التوجيهية التى صارت الثانوية العامة فى ما بعد، ومع أننى بدأت الدراسة إبان الطفولة باللغة الفرنسية لمدة عام فى مدرسة الراهبات بشبين الكوم، إلا أنها عادت فتآكلت وزاد تآكلها عندما بدأنا باللغة الإنجليزية فى المرحلة الابتدائية، فتراجعت الفرنسية مع صعوبة وتعقّد قواعدها أمام سهولة تحصيل اللغة الإنجليزية.. ومع عنايتى وإتقانى حتى الآن ما كنا نسميه بالـGramer، ومعرفتى بتصريف الأفعال، بما فى ذلك مجموعة الأفعال الشاذة، إلا أننى كنت أعانى فى تكوين الجمل والعبارات، وانسحب ذلك على تعثّر فى أداء الامتحان.. لاحظنى المراقب فى اللجنة المرحوم الأستاذ «س. س»، وكان من شلة الأصدقاء الأكبر من مجموعتنا، وبيننا آصرة دعته إلى محاولة مد يد العون، فأتانى بورقة للأسئلة مدونة عليها الإجابات، ولكن الأستاذ الطيب فوجئ برفضى.. ولم يصدق نفسه.. فراجعنى باندهاش شديد كيف أرفض نجدة آمنة، لأنه المراقب، تحمينى من الرسوب؟! طمأنته حتى لا يغضب بأننى قادر على شق طريقى، ولم يكن ذلك صحيحاً، ورسبت بجدارة فى اللغة الفرنسية.. لم أستطع أن أُفصح له عن سبب رفضى يد العون التى مدّها إلىّ.. إنه أبى رحمه الله رحمة واسعة.. كان دوحة ومدرسة ومثلاً أعلى فى منظومة قيمية وأخلاقية تقدّس الصدق والاستقامة، وترفض الغش وتأباه، حتى أشعرنا رحمه الله بأن الغش عار، وأنه لا طعم لنجاح، أى نجاح، إذا قام على الغش والتدليس.. وأنه لا بأس من الإخفاق أو الوقوع، لأن العزيمة الصادقة كفيلة بتجاوزه والعودة للوقوف.. كان هذا ما حدث وحدانى ألا أندم قط على خسارة لم أتصاغر فيها.. ففى الاستعداد للملحق بشهرى الصيف، تلقيت دروساً إضافية لــدى الأسـتاذ شكرى عبدالمسيح.. وكان متميزاً ما زلت حتى الآن أحتفظ بكراساته.. عوضنى فى شهرين ما كنت أفتقده، وأعادنى إلى اللغة الفرنسية التى لم أقبل أن أنجح فيها بالغش، فرسبت ولكن علمتنى التجربة أن أعود إلى النجاح بالصدق والجهد، وقد كان!
صاحبتنى هذه الجدية ولا تزال طوال حياتى.. فى دراستى وفى عملى وفى رياضتى.. ما زلت أذكر فترة المناورة التى أمضيتها بمنطقة فايد والبحيرات ضمن الجامعيين ومع طلبة القسم النهائى بالكلية الحربية.. كانت خمسة عشر يوماً بالغة المشقة، انتهت بطابور تطعيم معركة وعبور حواجز وزحف تحت الأسلاك الشائكة ووابل النيران، لتختم بطابور سير نحو 160كم، بدءاً من جنيفة التى كنا نعسكر فيها، إلى السويس، ثم إلى الكلية الحربية بمصر الجديدة.. كان السير بالغ المشقة بالبيادة مع غرز رمال الصحراء، وكان فى مسافة منه موازياً لخط السكة الحديد الصحراوى من السويس إلى القاهرة، مما أغرى بعض الزملاء باستقلال القطار خفية لبعض المحطات تخفّفاً من عناء ومشقة السير الطويل الذى أضنانا.. ولكن قوة الإغراء لم تحفّزنى لركوب القطار.. لم أشأ أن أُفسد على نفسى حلاوة ذكرى هذا الطابور الشاق حين يولى الشباب وتنزع النفس إلى الماضى وتفتش فى صفحة الذكريات عما يُشعر بالرضا والاعتزاز.. هذا الالتزام أشقانى وحدانى دوماً لركوب الصعب، ولكنه أرضانى ولا يزال.. لم أكن الوحيد بين الزملاء الذى آثر ما آثرت، فقد شاركتنى فى التزام مشقة السير حتى النهاية صحبة من أعز الأصدقاء، نتذاكر حين نجتمع ما كان فى هذا الطابور من مجاهدة انتهت بالقفز إلى حمام السباحة بالكلية الحربية من ارتفاع عشرة أمتار، فيما يسمى باختبار الثقة، وهى ثقة شفت عنها شجاعة زملاء قفزوا من شاهق إلى المياه، مع أنهم لا يعرفون السباحة!
ظنى أن الكرامة قوامها هذا الالتزام الصادق.. فالكرامة والغش ضدان لا يجتمعان.. والجندية كرامة.. هكذا فهمتها منذ جنّدت فى 17 سبتمبر 1959.. صرت عضواً بصفة أصلية بفريق السباحة فى اتحاد المدفعية الرياضى، وعضواً بالتبعية فى فريق التنس لإتقانى الرياضتين.. أؤدى واجباتى بلا ترفع، باقتناع تام بأن الجندى يخلع كل الأردية لينخرط فى الجندية فى تواضع وانتظام وطاعة.. لم أجد بأساً من الكنس والرش، ولا من تنظيف أرضية حمام السباحة وعلى الرُّكَب بالفرشاة والصابون مرة كل أسبوع بعد تفريغه من المياه.. ولم أتضرّر قط من الاشتراك فى حمل الجراية من الحرس الجمهورى القريب بمنشية البكرى إلى حيث موضع الاتحاد.. مع أننى لم أكن أبيت أو آكل فيه.. ولم أقل لنفسى قط إن الذين يأكلون الطعام الأميرى هم الأولى بالخروج وحمل الجراية والسير بها على الأكتاف فى الشارع العام.. ولم أجد ما يمس الكرامة فيما كنت أقوم به عن اقتناع بأن الجندية تذيب كل الفوارق، وتشد العود والعزيمة والإرادة.
ولكنى لم أنسَ قط أن الجندية كرامة.. وأنه يمس الكرامة أن تكلف بما لا يجوز أن تكلف به مهما كان هيناً! حمل الجراية والتنظيف والكنس والرش خدمات عامة، تؤدى للخدمة لا لأشخاص.. لهذا لم أتضرّر منها قط، ولكننى فجّرت مشكلة كبرى فى الاتحاد يوم نادانى الرقيب (ق. ز)، وكان لاعباً مخضرماً ورقيباً شرفيّاً فـى فريق كرة القدم، نادانى وطلب إلى أن أشترى له علبة سجائر من الكانتين، فلم أجد لطلبه محلاً، فلست بفريقه، ولا يوجد ما يبرّر له تكليفى بطلب خاص.. فرفضت، ولم أتردد أن أقول له، لماذا لا تذهب أنت وتشترى لنفسك ما تريد؟!
قامت القيامة، وأُدخلت إلى مكتب الرائد أحمد عيسى عبده القائم مع الرائد يوسف زين بإدارة الاتحاد، نيابة عن المقدم كمال حجازى.. كيف يمكن لجندى أن يعصى أمراً صادراً من الرقيب «ق. ز» الذى كان يتمتع فى الاتحاد بمكانة اللاعب الخبير.. ولكنى لم أساير تخطئتى، وتمسكت بأننى لم أجند لأكون فى الخدمة الخاصة لهذا أو لذاك مهما كانت أقدميته.. تم تكديرى ولكننى لم أتراجع، ودورنى رقيب أول الاتحاد فى طابور تأديبى ظللت أؤديه فى جلد حتى تعب من أراد لوى إرادتى!.. تهون كل الصعاب حين يتمسك الإنسان بالحق والكرامة!
فهل أشقانى أبى أم شرّفنى حين صدَّر إلىّ مثاليته وزرعها فىّ منذ الصغر؟! نعم أتعبتنى لأنى ركبت بها الصعب دائماً، ولكنها أرضتنى وصانت لى أمانى النفسى وكرامتى.. وحفظتنى مما يتوارى به الناس خجلاً أو إشفاقاً من المعرّة أو الحساب!