ولد قبل التاريخ المدون في بطاقة الهوية والسجلات بألف أو بضعة آلاف من السنين، أطلت ابتسامته الملهمة أولا إلى أن اكتمل رضيع «بني مر»، يتيم الأم عرف الصرامة منذ لمست أقدامه تراب مصر، وكأنما غرس نبتا ونشأ كخلق جديد، «ناصر» المنزوي والمتأمل سبق سنين العمر، وكبر قبل الأوان.
كأن شيئا قدريا يملي عليه ما يجب أن يقرأ وما يدرس، تعمق الفتى في قراءة تاريخ مصر، ولم يشغله شاغل عن هواها، حفظ أسماء مدنها وقراها، أدرك مع الوقت حقيقة أنها لا ينبغي أن تبقى أسيرة وما كان لشعبها هذا الصمت.
يده القويّة تشعل الحرائق في التّاريخ الذي كاد أن يتوقف تحت وطأة القوة الغاشمة للدول الاستعمارية، والتي كادت توقن أن السيادة قد دانت لها، وأن الأمم قد رفعت رايات الاستسلام ورضيت بالخضوع.
استيقظ العالم كي يراه، مصري المولد والنشأة، عالمي التأثير، ينشر رايات التحرر وكأنما لم يخلق إلا من أجل ذلك الفعل، يشير في القاهرة، فتتحرك الجموع الهادرة في أسقاع الأرض من أقصاها إلى أقصاها.
يطل بابتسامته فيسري سحره حتى يفهمه من لم يعرفوا لغته العربية ولم يتحدثوا بها يوما، بساطة كلماته رآها محبوه قوة خارقة، يخترق بها القلوب ويحل بها ساكنا سرمديا لا يمحوه الموت ولا يقلل من حضوره طول الغياب.
التاريخ ذاته انحاز لذلك الحضور الطاغي للزعيم حين دحر الصهاينة وغادروا سيناء مهزومين في الخامس عشر من يناير عقب العدوان الثلاثي، صار عيدا للنصر ليس على الاحتلال وحده بل على كل معاني الفقر والتخلف.
كل شبر من الأرض المصرية حملت له بصمة، مزارع وقلاع صناعية ظلت سندا للاقتصاد المصري عقودا طويلة، كلها بدأت زمن الحس الوطني والعمل المنظم والخطط التي لم يشهد لها التاريخ المصري مثيلاً.
لم تكن حياته سلسلة من الانتصارات، عرف الهزيمة والخسارة، لم يهزم ولم يرفع راية الاستسلام، تماما كما لم يجد الهوى وحب الشهوات إلى نفسه سبيلاً، لم يمر وقت طويل دون أن يتآمر عليه جحافل الأعداء من داخل وخاج مصر، تداعت عليه قوى الاستعمار، هاجمه أصحاب المصالح ممن أضيروا جراء قرارات كان من المفترض أنها تصلح حال المجتمع وتحقق العدالة الاجتماعية، لم يتركوه ينعم بالهدوء فما استسلم ولا استكان، القوة والصمود كانا عنوان شخصيته.
تعلّمنا حبّك على الدوام، هكذا غنت له الشعوب، نفس الكلمات التي تغنوا بها في أمريكا اللاتينية للمناضل التاريخي «تشي جيفارا»، لم يتوقف الأعداء عن مهاجمته حتى بعد وفاته، ولم تشفع له شهادات التاريخ بصحة رؤاه وصوابها، شمسه طلعت ولن يستطيع أحد حجبها ولن تغيب أبدا.
الرئيس الفنزويلي «هوجو تشافيز» لخص موقف العالم منه في كلمات عبرت عن موقفه من ناصر، وهو على بعد عقود من رحيله وفي بلاد بعيدة «أنا الناصري الأول في العالم».