ما سر جمال عبدالناصر؟ لماذا هو حى فى نفوس المصريين حتى اللحظة؟ لماذا ما زال قادراً على أن يملأ الدنيا ويشغل الناس بعد رحيله بستين عاماً كاملة؟.. ليست هناك إجابة مانعة جامعة عن هذه الأسئلة، لكن هناك عدة حقائق تتعلق بجمال عبدالناصر.. أولاها أن الرجل هو أبوالدولة المصرية فى نسختها التى أنتجتها ثورة يوليو.. هو الأب المؤسس وواضع القواعد، وقد شاء القدر أن تمتد دولة يوليو بتنوعات وتشوهات مختلفة، ثم أن يعيد المصريون الاستفتاء عليها ويمنحوها شرعية الاستمرار فى ٣٠ يونيو ٢٠١٣، على أن الحقيقة لا يمكن أن يغالط فيها أحد بأن الرجل جمع بين كونه مؤسس دولة، وبين شرعية الإنجاز الاجتماعى، حيث انحاز إلى الفقراء، وتضاعفت الطبقة الوسطى فى عهده آلاف المرات، ووجد البسطاء من خلال فرص التعليم والرعاية الصحية والتوظيف والإسكان الاجتماعى فرصاً للحياة الحرة الكريمة، وهو ما افتقدوه بعد رحيله لعقود طويلة مرت، وهكذا فإن عبدالناصر كان أبوالدولة وأبوالشعب، أو ابن الشعب البار، إذا شئت هذه التسمية.
أحد جوانب الاحتفاء بعبدالناصر هو الزمن.. أو الحقائق التى يجعلها الزمن واضحة جلية، إحدى هذه الحقائق أن النكسة وقعت لأن هذا هو الإمكان المصرى وقتها فى مواجهة إسرائيل، أخطأ عبدالناصر بكل تأكيد فى إدارة الأزمة، لكن جزءاً من الصدمة كان إحساس المصريين بأن إسرائيل عبارة عن (شوية يهود مهاجرين).. بعد كل هذه السنوات يتضح أن إسرائيل جزء أساسى من العالم الغربى، وأنها تفوق بعض دوله الكبرى فى التطور العلمى.. إلخ، وبالتالى يتقبّل العقل العادى والمنصف فكرة الهزيمة باعتبارها بنت الظرف الحضارى والسياسى أيضاً، يساعد على هذا التقبّل أنه مرت سنوات كثيرة وقامت الثورة الإسلامية فى إيران.. ولم تُهزم إسرائيل، وحكم حزب إسلامى تركيا منذ ٢٠٠٢، ولم يفكر حتى فى إجراء خشن ضد إسرائيل، فضلاً عن الحرب معها.. وبالتالى فإن أكبر أخطاء عبدالناصر (النكسة) أصبح ممكناً تفهّمه وقبوله، فالمعركة مع إسرائيل ليست نزهة، وإلا لكان الآخرون قد أقدموا عليها.. فضلاً عن هذا فقد انخرط الرجل فى عملية جادة تجهيزاً للمعركة دفع ثمنها حياته.
جزء من انكشاف الحقائق أيضاً هو إدراك المصريين أن الرجل تعرض منذ بدايات السبعينات لعملية تشويه منظّمة قام بها الإخوان المسلمون والإسلاميون بجميع تنويعاتهم بمباركة ضمنية من الرئيس السادات الذى تحالف معهم أول سبع سنوات من حكمه، ويُمكن فى هذا الإطار الرجوع إلى مئات الكتب التى أصدرها الإخوان عن عبدالناصر فى السبعينات، وإلى أعداد مجلتهم «الدعوة»، والمئات من خطب الشيخ عبدالحميد كشك، نجم السبعينات ورجل الجماعة فى مجال الدعوة الدينية، فضلاً عن الآلاف من دعاة الجماعة وخطبائها الذين سمح لهم بحرية مطلقة فى العمل طوال سنوات السبعينات وحتى رحيل الرئيس مبارك عن الحكم.
يضاعف من هذا الانكشاف أيضاً وعى الناس، أو بالأدق إحساسهم بتشابه اللحظة بين قيام ٢٣ يوليو وبين ٣٠ يونيو.. فالحقيقة أن جمال عبدالناصر وهو يسرع بحركة ٢٣ يوليو، لم يكن يستهدف الملك والأحزاب القديمة بقدر ما كان يستهدف جماعة الإخوان التى كان احتمال استيلائها على الحكم قائماً فى ضوء فشل النظام القديم.. وقد تكرر إنتاج الموقف فى ٣٠ يونيو، حيث الصراع على البلد بين الإخوان والقوات المسلحة.. المؤسسة التى أنجبت جمال عبدالناصر وأصبح من خلالها رئيساً للجمهورية.
يبقى جمال عبدالناصر هو رجل الدولة المصرية، الذى اتبع نظام التجربة والخطأ، والحقيقة أن العمر لو امتد بجمال عبدالناصر، فإنه كان سيُجرى عدداً من التحولات التى أجراها خلفاؤه، لكن الأكيد أنه كان سيجرى هذه التحولات بأكبر قدر من الكفاءة والنزاهة والوطنية.. كان يمكن لعبدالناصر أن يعقد سلاماً مع إسرائيل، لكنه لم يكن أبداً ليكون بكل هذا القدر من الاستعراض، والتساهل فى التفاصيل، والاصطدام بالمشاعر العاطفية للمصريين.
كان يمكن لعبدالناصر أن يصالح الإخوان المسلمين، لكنهم كانوا سيبقون فى مساحة محدودة يُحدّدها لهم، لا يستطيعون بمقتضاها أن يحكموا الشارع المصرى ويستولوا عليه كما فعلوا خلال خمسين عاماً، كان يمكن لعبدالناصر أيضاً أن يُفسح مساحة أكبر للقطاع الخاص.. لكن ذلك كان سيتم دون فساد أو إفساد، وبما يُحقّق مصلحة مصر وليس أى أحد آخر.. من أجل هذا يحب المصريون جمال عبدالناصر.