لا يمكن لأى دولة أن تُفعّل استراتيجياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية من دون امتلاك القدرة على التواصل مع قطاعات الجمهور والتأثير فى الرأى العام؛ لكن تحدّياً ضخماً طرأ على هذه المهمة، وهو أمر يستلزم جهوداً وتركيزاً من أجل تجاوزها.
بسبب تطورات جذرية متسارعة طرأت على آليات صناعة المحتوى الإعلامى وتوزيعه، بموازاة اختراقات كبيرة فى مجال تكنولوجيا المعلومات، تغيّرت طبيعة الإعلام تغييراً جوهرياً، منذ مطلع الألفية الثالثة، بشكل يُمكن أن يُربك الجهود التنظيرية التى سعت إلى إرساء وظائفه وأدواره إزاء العمليات السياسية والاجتماعية بأنواعها، ويفرض ضرورة إعادة النظر فيها.
وعلى عكس الكثير من التطورات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التى شهدها العالم فى القرون الثلاثة الأخيرة، فإن التطورات التى طرأت على المشهد الاتصالى والإعلامى أثرت وتفاعلت فى المنطقة العربية بشكل ملموس ومتوازن مع مناطق العالم المختلفة، بحيث ظهرت ثمارها سريعاً فى البنية المجتمعية لمنطقة الشرق الأوسط، مثل غيرها من مناطق العالم الأكثر نمواً.
وبموازاة النسق الإعلامى «التقليدى»، تُبرز الكثير من الدراسات والبحوث الموثقة ملامح المشهد الاتصالى الجديد فى منطقة الشرق الأوسط، وهو مشهد آخذ فى الاتساع والتغيير المستمر.
فقد توصّلت نتائج تقارير ودراسات علمية إلى أن نسبة استخدام الهواتف المحمولة والإنترنت تتصاعد باطراد، حتى إنها تصل فى بعض الدول إلى أكثر من 90% من إجمالى السكان.
وتوضح البيانات أن مستخدمى «الإنترنت» يمضون أكثر من ست ساعات ونصف الساعة يومياً على الشبكة عالمياً، ويرشح باحثون هذا الرقم إلى مزيد من الارتفاع.
وتستخدم وسائل «التواصل الاجتماعى» آليات جذب لمستخدمى الإنترنت، إذ إن نحو نصف سكان العالم نشطون عليها، ويتوقع تقرير صادر عن منصة «هوت سويت» المتخصّصة فى بحوث الاتصال الإلكترونى أخيراًً «سلوكيات رقمية جديدة»؛ مثل استبدال لوحات المفاتيح للأجهزة الإلكترونية بأوامر صوتية وكاميرات، وأن يُهيمن المحتوى المرئى على شبكات «التواصل الاجتماعى»، فيما تقدم التقنيات الجديدة تجارب رقمية أكثر ثراء للناس فى مختلف المناطق بالعالم.
يمكن القول، بعد استعراض البيانات السابقة، ورصد اتجاهات إنتاج المحتوى الإعلامى وتوزيعه، ومراجعة بحوث قياس أثر الرسائل الإعلامية، واتجاهات الحملات الإعلانية، إن الإعلام الذى اجتهدت البحوث الاجتماعية على مدى العقود الفائتة فى تعيين دوره المفترض إزاء العمليات السياسية والاجتماعية بات إعلامين: أولهما ينشط فى الإطار التقليدى الذى عرفناه على مدى نحو قرنين من الزمان، بينما ينشط الآخر فى الإطار الرقمى، الذى يبدو أنه يكاد يسيطر على القسم الأعظم من أنشطتنا الاتصالية.
ومع الأخذ فى الاعتبار أنه لا توجد حدود مادية فاصلة بين النسقين، ولا يوجد أى مانع لتبادل المحتوى بينهما، يصعب جداً بسبب هذين الاعتبارين تعيين مجال تأثير أى منهما على نحو محدد.
ويمكن تعريف هذا الإعلام غير التقليدى بأنه جميع عمليات إنتاج المحتوى الإعلامى، وبثه، ونشره، وتوزيعه، من قِبل جهات إنتاج معلومة الهوية أو غير معلومة الهوية وغير مسجلة لدى الهيئات العمومية الضابطة للأداء الإعلامى، وهى عمليات إنتاج يمكن أن يقوم عليها أفراد عاديون أو مجموعات عمل من الهواة أو المحترفين، ولا تخضع إلى أى نمط من أنماط المراجعة والمساءلة والضبط إلا ما تُقرّره لذاتها، أو يُجرّمه القانون، أو يخرق المحدّدات والقيود المعمول بها لدى شركات التكنولوجيا العملاقة المشغّلة لوسائط «التواصل الاجتماعى».
لكن ازدهار أنشطة الوسائط الرقمية الجديدة حملت إلينا تحديات كبيرة وخطيرة؛ منها وجود زيادة كبيرة فى نمط الاعتماد على وسائط الإعلام غير النظامية (السوشيال ميديا خصوصاً) فى التزود بالأخبار والمعلومات وبلورة الآراء ووجهات النظر حيال التطورات السياسية والاجتماعية.
وارتفاع مطرد فى نسب التعرّض للوسائط غير النظامية على حساب الوسائط التقليدية، بشكل يؤدى إلى اختلال التوازن الحاصل بينهما الآن.
وفى كثير من المناطق أدى ظهور وسائل إعلام جديدة لاحتدام المنافسة الإعلامية، الأمر الذى خلق صعوبة كبيرة فى إيجاد صحفيين محترفين ومدربين، مما أثر سلباً فى القدرة على الالتزام بالقواعد والمعايير المهنية.
كما تبرز إلى جانب ذلك التحديات طويلة الأمد المرتبطة بحرية وسائل الإعلام التقليدية واستقلالها، وقدرتها على توفير عائدات، فى ظل منافسة شرسة مع القطاع الجديد على عوائد الإعلانات.
تفيد دراسة حديثة أجرتها جامعة أوريجون Oregon فى الولايات المتحدة الأمريكية عن مؤشرات مواقع التواصل الاجتماعى، قام بإعدادها الباحثان «داميان رادكليف»، و«بايتون برونى»، بأن ثلثى الشباب العربى (٦٣٪ تقريباً) يقولون إنهم يتّجهون إلى «فيس بوك» و«تويتر» أولاً للحصول على الأخبار، ونصف تلك النسبة تتركز بين الشريحة العمرية من ١٨ إلى ٢٤ عاماً. وقد ارتفعت نسبة مَن يعتمدون على «فيس بوك» كمصدر للأخبار بمقدار ١٥٪ فى عام واحد فقط.
وتؤكد شواهد موضوعية كثيرة هذا الاتجاه، الذى يُكرّس وسائط «التواصل الاجتماعى» باعتبارها المصدر الأكثر نفاذاً وانتشاراً للتزود بالأخبار، وما يصاحبها بالطبع من تحليلات وصور وانطباعات وآراء.
يقود هذا التغيير الجوهرى فى نمط الأداء الإعلامى المواكب للعمليات السياسية والاجتماعية وآليات التأثير فى الجمهور وطبيعة التزود بالرسائل إلى ضرورة اجتراح آليات جديدة للتعامل مع وضع جديد.
تحتاج الدولة الوطنية إلى تعزيز آليات التواصل بينها وبين قطاعات الجمهور، خصوصاً شرائح الشباب التى تشكل النسبة الأكبر والأكثر فاعلية بين هذا الجمهور، ولكى يحدث ذلك؛ ستكون الدولة الوطنية معنية بإعادة تشخيص هذه الآليات، واختبار مواطن النفاذ والتأثير فيها، والتفاعل مع قطاعات من المؤثرين الجدد، الذين يمكن أن يكونوا أفراداً من الهواة، أو يكونوا من غير محدّدى الملامح، وهو أمر ينطوى على صعوبات كبيرة.
لا يجب ترك هذا المجال الذى أثبتت التجارب والتطورات والدراسات الموثوقة أنه مجال التأثير الحقيقى والأهم من دون حوكمته وعقلنته، لأن تركه من دون قواعد وأسس استخدام رشيدة ومنطقية يمكن أن يؤدى إلى كوارث كما حدث فى أحيان عديدة.
إن المخاوف من انتهاك الخصوصية أو التجارة فيها تتصاعد، ومعها ما بات ثابتاً عن أدوار لهذه الوسائط فى التحريض على العنف وإشاعة الأخبار المضللة وإثارة الكراهية والتمييز، وهو أمر يدعونا إلى البدء فى عملية تنظيمية تُحد من تلك التداعيات الخطيرة.