صباح أمس الأحد - 17 يناير الجارى - نشرت جريدة «الوطن» خبراً صغيراً عن قرية مصرية جمعت 106 آلاف جنيه خلال نصف ساعة، لمواجهة تداعيات فيروس كورونا الذى ضرب عدداً كبيراً من أهالى القرية. والحقيقة أن المبلغ المذكور لم يدهشنى، ولم يكن هو السبب فى الوقوف قليلاً عند هذه القرية التى لا تختلف كثيراً عن آلاف القرى والعزب والنجوع المصرية.
إن جمع 106 آلاف جنيه فى نصف ساعة فقط من أهالى قرية ليس رقماً كبيراً، وبإمكان لجنة مصغرة فى أى قرية أن تجمع ملايين الجنيهات خلال أيام لمواجهة أية ظروف طارئة، إذا توافرت لها المصداقية، وقد انتشرت مؤخراً على بعض جروبات «الفيس بوك» دعوة ابتكرها شخص مجهول تطالب المواطنين فى القرى بالتبرع بثمن علبة سجائر محلية الصنع لمواجهة تداعيات كورونا وإغاثة الذين فقدوا أعمالهم بسبب انتشار هذا الوباء، واتضح أن المبلغ الذى يمكن جمعه خلال عام واحد من ثلاثة آلاف مدخن فقط هو 21٫9 مليون جنيه.
المبلغ إذن ليس كبيراً ولا مدهشاً، ولكن المدهش الذى استوقفنى فى الخبر هو ما قاله مدير مركز شباب القرية عن أن أهالى القرية استخدموا «ميكروفونات» 29 مسجداً لجمع التبرعات، ولأننى أنتمى أساساً إلى قرية فى دلتا مصر، وأراقب منذ عشرات السنوات ظاهرة إنشاء المساجد والزوايا فى قرى وعزب وكفور ونجوع مصر، فقد استوقفنى الرقم «29 مسجداً»، لأنه فعلاً رقم كبير جداً يفيض عن حاجة أى قرية مهما بلغ حجمها أو عدد سكانها، ولأنه قبل ذلك وبعده يشير إلى «أمور» شديدة الأهمية لا أظن أن الدراسات الاجتماعية الميدانية تناولتها بما فيه الكفاية أو توقفت عند دلالتها المثيرة.
القرية اسمها «شنشور» بمركز أشمون فى محافظة المنوفية، وطبقاً لإحصاء عام 2006 يصل عدد سكانها إلى حوالى 19 ألف نسمة، وتقع على مساحة 2600 فدان هى كل زمامها السكنى والزراعى، وقد ذكرها محمد رمزى فى كتابه «القاموس الجغرافى للبلاد المصرية» باعتبارها من القرى القديمة، وأشار إلى أنها وردت فى الدليل العام الذى تم تصنيفه عام 1809 «أثناء حكم محمد على باشا»، تحت اسم «شنشور القمح» بسبب شهرتها فى إنتاج صنف جديد من القمح كان يتميز بجودته العالية فى ذلك الوقت. كما ذكرها على مبارك «1823 - 1893» فى كتابه «الخطط التوفيقية» بأنها تابعة - آنذاك - لمركز منوف، وأن بها «أربعة جوامع وثلاث زوايا» ومهنة أهلها الزراعة.
ولعل ظهور هذا العدد من الجوامع والزوايا فى هذا الوقت المبكر بقرية شنشور يعود إلى أنها موطن رأس الشيخ عبدالله بن محمد الشنشورى، أحد فقهاء الشافعية الكبار فى القرن 16 الميلادى، ولكن تضخم عدد المساجد حالياً ربما يعود إلى أن «شنشور» كانت موطن رأس فقيه آخر هو الشيخ عبدالرازق عفيفى، (1905 - 1994» الذى حصل على العالمية من الأزهر الشريف عام 1923، والدكتوراه فى الفقه وأصوله عام 1936، وتولى رئاسة «جماعة أنصار السنة المحمدية» بعد رحيل مؤسسها الأول الشيخ محمد حامد الفقى عام 1959. وتشير المعلومات المتداولة عن الشيخ عبدالرازق عفيفى إلى أنه غادر مصر فى بداية الخمسينات من القرن الماضى، للإقامة الدائمة فى المملكة العربية السعودية، استجابة لدعوة الملك عبدالعزيز آل سعود للتدريس فى كلية الشريعة بالرياض، وأنه ترقى فى عمله هناك حتى تبوأ عدداً من المناصب الشرعية المرموقة، مثل رئاسة المعهد العالى للقضاء السعودى، وعضو هيئة كبار العلماء، ونائب مفتى المملكة العربية السعودية، وخلال ذلك كله احتفظ برئاسته لجماعة أنصار السنة المحمدية التى تأسست عام 1926 تحت دعوى «نشر منهج وعقيدة أهل السنة والجماعة فى التلقى والاستدلال والدعوة إلى التوحيد الخالص ونبذ البدع والخرافات»، وتمكنت من نشر فروع لها فى كل محافظات مصر حتى عام 1969 عندما قام جمال عبدالناصر بتجميد نشاطها، وبعد رحيل «ناصر» أعادها السادات إلى الحياة وسمح بإشهارها مرة أخرى عام 1972 لتنشط وبكثافة شديدة فى بناء المساجد والزوايا فى معظم قرى مصر بتبرعات خارجية - ثبت أن معظمها يأتى من دول الخليج وخصوصاً السعودية - ومن الواضح أن قرية «شنشور» كان لها نصيب وافر من المساجد والزوايا بسبب رئاسة أحد أبنائها لهذه الجماعة ووصوله إلى أعلى المناصب الشرعية فى المملكة العربية السعودية فى آن واحد.
واللافت فى هذه الحالة التى تجسدت فى قرية «شنشور»، أنها تصلح لأن تكون نموذجاً تقاس عليه الغالبية العظمى من القرى والعزب والنجوع المصرية، التى انتشر فيها نوع من «التدين» يفضل إقامة المساجد والزوايا، فى الوقت الذى ينصرف فيه أشياع هذا «التدين الظاهرى» عن إقامة المشروعات الاقتصادية أو المدارس أو الوحدات الصحية.. حتى اكتظت قُرانا بدور عبادة تفيض عن حاجة أهلها، وافتقرت إلى أبسط أنواع الصناعات الحرفية والتراثية التى توفر ملايين فرص العمل لأبناء القرى وتلعب دوراً فارقاً فى زيادة الناتج الإجمالى لكل الدول والشعوب التى انتبهت إلى القيمة الاقتصادية لهذه النوعية من الصناعات، حتى إن كل الاقتصاديين لم يتفقوا على شىء أكثر من اتفاقهم على أن الصناعات التراثية تمثل عملاقاً اقتصادياً نائماً، لا يحتاج إلا إلى قدر بسيط من المال والعلم والاهتمام لكى يستيقظ وينتشل الملايين من الفقر والبطالة والجوع والمرض.
والمثير فى الأمر كله أن مصر عرفت منذ بدايات النصف الثانى من القرن العشرين وإلى الآن، عشرات الهيئات والمؤسسات والبرامج التى اهتمت نظرياً وعملياً بالصناعات التراثية، وقامت بمحاولات عديدة لتوطينها فى أماكنها الطبيعية بالقرى والعزب والكفور والنجوع، ولكن كل هذه المحاولات انتهت إلى ما نعرفه من فشل ذريع، فى الوقت الذى تمكنت فيه جماعة أنصار السنة وغيرها من المؤسسات والجماعات الدينية من تبوير الأراضى وتجريف الصناعات التراثية لإقامة الآلاف من دور العبادة التى تفيض - بكل المقاييس - عن حاجة البلاد والعباد للصلاة أو العبادة، والأكثر إثارة أن انتشار هذا النوع من التدين الظاهرى تزامن تماماً مع انهيار القيم وتدنى الأخلاق وتفشى ظواهر الإدمان والانحراف والسرقة والانحلال والرشوة والفساد، وخصوصاً فى الحزام العشوائى الرهيب الذى تضخم حول كل المدن المصرية بسبب النزوح المتنامى لسكان القرى بحثاً عن فرصة عمل أصبح العثور عليها فى القرى من المستحيلات.