فى تعليقه على حجب منصات التواصل الاجتماعى لكل حسابات الرئيس الأمريكى ترامب، علق دميترى مدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن القومى الروسى، قائلاً «إن هذا الحجب لحسابات الرئيس وأنصاره على مواقع التواصل الاجتماعى يُعد رقابة محمومة واستبداداً رقمياً».
وللوهلة الأولى يمكن اعتبار هذا التعبير مصطلحاً جديداً، بالمعنى العلمى والمنهجى، يصف بعمق الحال الذى وصلت إليه شركات التواصل الاجتماعى الكبرى فى مواجهة، سواء المسئول الكبير أو الفرد البسيط فى أى بلد وفى أى مجتمع.
وعن تجربة شخصية قبل يومين، تساءل أحد الأصدقاء فى حساب له عن معنى تراجع تطبيق «واتس آب» عن تحديثاته التى رفضها المستخدمون فى كل بلاد العالم، نظراً لاختراقها الفجّ لخصوصيات الأفراد، والتصرّف فى تلك الخصوصيات باعتبارها سلعة تُباع للحصول على عوائد مالية، دون أن يكون لصاحبها أدنى معرفة بمصيرها، فكان لى تعليق بسيط فسّرت فيه هذا التراجع بكونه مؤقتاً، ورجّحت أن تبحث الشركة عن أسلوب آخر بعد فترة محدودة لإقناع المستخدمين بقبول تحديثات معدّلة تحقّق الغرض ذاته. وكانت المفاجأة أن كلاً من السؤال والإجابة لم يظهرا واختفيا تماماً. وعلى سبيل العزاء للنفس، أقنعت نفسى بأن ما حدث مع «ترامب»، رئيس أكبر دولة وأقواها، هو قطعاً أكبر وأكثر جسامة من مجرد منع نشر تعليق لا يزيد على عدة أسطر كتبه إنسان بسيط.
حجب حسابات الرئيس ترامب فى مواقع التواصل الاجتماعى بدون حكم قضائى قائم على دلائل يقينية، وهو فى السلطة، بحجة أن تغريداته أو مواقفه قد تؤدى إلى عنف فى البلاد، يعطينا فكرة عن التصرّف المنفرد والمطلق لأصحاب تلك المواقع، دون خشية من محاسبة أو مراجعة أو دفع ثمن.
ومن يراجع تعريف الاستبداد بمعناه السياسى والاجتماعى السائد حالياً، والمتضمن التصرف المطلق من سيد المكان أو رب المنزل أو حاكم البلاد حسب الأهواء، وتجاوزاً لكل القواعد، ودون خشية من محاسبة أو مراجعة، يجد أنه ينطبق جملة وتفصيلاً على موقف تلك المواقع، والتى أصبحت سيداً مطلقاً على تصرفات البشر وآرائهم وأفكارهم، تحدّد قواعد ما يُنشر وما لا يُنشر، وتأتى قراراتها من خلال حساباتها الخاصة وليست حسابات المجتمع ككل، أو السلطة الحاكمة بمؤسساتها الدستورية والقانونية والقضائية.
الأمر على هذا النحو يطرح مؤشراً يجب الوقوف أمامه طويلاً حول المدى الذى يمكن أن تصل إليه سطوة تلك الشركات على المجال العام فى كل المجتمعات التى تسمح لها بالتصرّف المنفرد، متجاوزة الأعراف الوطنية.
فى الحالة الأمريكية الراهنة، ثمة مفارقة تفرض أيضاً التمعّن والتأمل فى دلالاتها، فرغم التصادم الكبير بين تصرف تلك الشركات، وبين كل ما يُقال عن الالتزام بالقيم الديمقراطية، وأن تلك المواقع بمثابة منصات يمارس فيها الفرد فى العالم كله حريته فى إبداء الرأى دون قيود، فقد ثبت أن الأمر ليس بمثل هذه المثالية الدعائية.
إذ هناك قيود يمكن فرضها فى حالات خاصة وعامة على النحو الذى يحقّق مصالح أصحاب تلك المواقع الشهيرة، التى أصبحت مكوناً رئيسياً فى السلوك البشرى اليومى بما يترتب عليه من مصالح وعلاقات، حيث قامت تلك المنصات بدور تجاوزت فيه أدوار المؤسسات الدستورية، وهو ما يطرح إشكالية السيادة لمن؟ صحيح هنا أن مؤيدى الحزب الديمقراطى والرافضين لرؤى «ترامب» ومنهجه السياسى من الجمهوريين، يرون فى هذا الحجب موقفاً مشروعاً، وإضافة إلى مواقفهم بحكم كراهيتهم للرجل ونزوعهم الشديد للانتقام منه، لكنهم قطعاً لا يضمنون أن يأتى يوم تُطبق فيه هذه الشركات التى لا تخشى أى محاسبة، هذه القيود وأكثر منها على شخوصهم وعلى مؤيديهم.
وبهذا التأييد الذى يتجاوز كل المنظومة الديمقراطية، يضع هؤلاء جميعاً اللبنة الأولى لاستبداد رقمى يقود حتماً إلى نهاية النموذج التعدّدى التنافسى ولو بعد حين.
حسابات اللحظة والأهواء والنزعات الانتقامية تُعدّ المحفّز الرئيسى لمثل هذا التحالف بين سياسيين وإعلام ومنصات التواصل الاجتماعى، وهو تحالف وقتى، ولكنه ضار بكل المقاييس. من يدافعون عن سلوك منصات التواصل فى الحجب والمنع لجمهور عريض لديه رؤية مختلفة، بحجة أن هذه الشركات لها قواعد ولديها الحق فى أن تفسخ العلاقة التعاقدية الضمنية والعرفية، يبرّرون تغوّل تلك الشركات أكثر من واقعها الحالى.
وعندها لن يمكن محاسبتها أو تحييد سيطرتها المعنوية والمادية على التفاعلات الإنسانية عبر الشبكة.
ومعروف أن هذه الشركات الكبرى لا تسمح بنشوء أى شركات منافسة، وحين تنجح إحداها وتصبح بديلاً محتملاً أو منافساً ولو بعد حين، تقوم شركة كبرى بشرائها والتحكم فيها، مثل ما حدث بين «فيس بوك» وتطبيق «واتس آب». وهذه النوعية من السلوك الاحتكارى تضر بدورها بقواعد المنافسة الحرة، التى هى إحدى دعائم السوق الليبرالية، وهكذا يمتد الاستبداد الرقمى إلى صلب وعمق الحياة الاقتصادية الحرة التى تعد شرطاً أساسياً لأى نظام ديمقراطى.
البسطاء فى كل مكان يفرحون بالتطبيقات المجانية، سواء فى مجال العمل أو الترفيه أو الثقافة، وهم فى الحقيقة يقدمون الكثير من المنافع لتلك الشركات، فكل بياناتهم وأسرارهم وصورهم تمثل الكنز الأكبر الذى توظفه تلك الشركات من أجل التوسّع وإبداع المزيد من التطبيقات المجانية التى تسلب من الأفراد كل مساحة ممكنة من خصوصياتهم وتصرفاتهم اليومية. والمؤكد أن هناك ما هو أكثر من مجرد توظيف لتلك البيانات، فى إطار تحسين الأداء وإبداع تطبيقات جديدة. والمؤكد أيضاً أن استبداد شركات التواصل الاجتماعى لن يتوقف عند حدود الولايات المتحدة، بل سيشمل العالم كله، خاصة المجتمعات والبلدان التى لا توفر لمواطنيها تطبيقات مماثلة تعينهم على التواصل الآمن، كما توفر للمسئولين فيها منصات آمنة ومضمونة، يتعاملون معها دون خشية تسرّب أسرار رسمية لا يجب الاطلاع عليها إلا للمصرح لهم فقط.
معروف أن دولاً كالصين وروسيا وكوريا الشمالية وكوبا، لديها كوابح على استخدام تلك المواقع الأمريكية المنشأ، وهناك انتقادات للمواقع المحلية البديلة، نظراً لطبيعة النظم السياسية الحاكمة. وفى الاتحاد الأوروبى مدونة لحماية خصوصيات الأوروبيين تحدّد ضوابط معينة على أداء تلك الشركات الأمريكية فى الفضاء الأوروبى. ولكن الغالبية العظمى من بلدان العالم لم تفكر فى كيفية ضبط حركة تلك التطبيقات العائدة لشركات أمريكية أو صينية، أو تقدم بديلاً وطنياً لها. وربما حان الوقت للتفكير جدياً فى مثل هذه البدائل مهما كانت التكلفة، لا سيما من منظور الأمن القومى للبلاد، ومنظور مراعاة الهوية التاريخية والحضارية للمجتمع.