«على هذه الأرض ما يستحق الحياة» كما قال الشاعر الفلسطينى الراحل محمود درويش.. وليس هناك أنبل ولا أطيب من أن يبدأ الإنسان يومه - فى هذه الأيام الحالكة السواد - بمشاهدة فيديو لمواطن مصرى قبطى من شبرا يطالبنا فيه بأن نكون أكثر آدمية وأكثر رحمة فى التعامل مع مرضى كورونا الذين وجدوا أنفسهم محرومين من السند والزيارة من أقرب الناس إليهم. وهذا المواطن النبيل، الذى يطفر من عينيه حنان دافق، قرر هو وبعض أصدقائه ومعارفه أن يتفرغ لإعداد وجبات غذائية صحية لمرضى كورونا الفقراء، وما إن بدأ مشروعه حتى اكتشف أن هناك سيدات كبيرات فى السن يعانين من آلام المرض، ومن وجع افتقاد الأهل والمساندة بسبب خوفهم من العدوى.
هذا النبل الإنسانى ذاته يمكنك العثور عليه فى آلاف القرى والأحياء المصرية التى ضربها هذا الوباء الكابوسى، فقد نشط فى كل قرية وكل حىّ تقريباً عشرات الشبان لتوفير الأدوية وأسطوانات الأكسجين لملايين الفقراء الذين دهمهم الوباء، واللافت أن كثيرين من هؤلاء الشبان كتبوا على صفحاتهم رسائل عديدة لأقارب المرضى، تدور كلها حول أهمية المساندة الإنسانية فى إنقاذ المريض من تداعيات المرض، وبعض هؤلاء الشبان رصدوا حالات كانت على مشارف الموت فعلاً ولكن أصحابها بدأوا يتماثلون للشفاء بعد السؤال عنهم والإحساس بأن هناك من يهتم بهم ويرعاهم أثناء عزلتهم الإجبارية.
فى مقابل هذا النبل، تكاثرت حولنا أيضاً مظاهر القسوة والتوحش التى تزامنت مع انتشار هذا الوباء فى العالم كله، وتفشت ظواهر استثمار المرض فى الإثراء الفاحش، ورصد مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة والمخدرات تنامياً ملحوظاً فى نشاط الجريمة المنظمة لإنتاج أدوية ولقاحات مزيفة تخص وباء كورونا، وقالت الدكتورة غادة والى، مديرة المكتب: «إن الجريمة المنظمة نشطة للغاية فى إنتاج أدوية ولقاحات مزيفة تشكل خطراً فادحاً على الصحة العامة».. وهو الأمر ذاته الذى رصدته الشرطة الأوروبية وأصدرت بشأنه عدة تحذيرات أكدت فيها: «أن عصابات الجريمة المنظمة تحركت بالفعل لانتهاز فرصة سنحت بسبب الجائحة».. وقالت أيضاً: «إن لقاح الإنفلونزا المزيف الذى وُجد فى المكسيك يشير إلى أن هناك مختبرات سرية تعمل الآن على إنتاج أدوية ولقاحات مزيفة تحمل علامات تجارية معروفة لا تُراعَى فيها اعتبارات النظافة أو الأمان»!
وإذا كان من السهل رصد ظواهر الجريمة المنظمة والتحذير منها فى تقارير دورية، فإن هناك جرائم أخرى تُرتكب كل لحظة فى حق مرضى كورونا لم تتوقف عندها التقارير الرسمية، إنها جرائم المبالغة الكارثية فى التحذير من مرضى كورونا وإرهاب الناس جميعاً من الاقتراب منهم أو التعامل معهم، وتركهم لعزلة يفترسهم خلالها المرض دون رحمة. ولأن المجتمعات كلها فى أزمنة الأوبئة تهتم فقط بتسجيل وإحصاء الحالات التى تصل إلى المستشفيات، وكل المنظومات الصحية منهكة فى إجراءات العزل والحماية وتوفير الأدوية والأكسجين، فلم تصدر حتى الآن تقارير طبية نوعية عن «دور العزل والوحدة وافتقاد المساندة والدعم الإنسانى» فى تفاقم حالة المرض وسرعة انهيار المرضى.. ورغم ذلك فإن الخبرات الحياتية والانطباعات الشخصية قد توفر مادة خصبة يمكن الاعتماد عليها فى بناء معرفة علمية عن علاقة «العزل الإنسانى» بالانهيار السريع للمريض، كما توفر حقائق لا يُستهان بها - علمياً - عن دور الدعم الأسرى والمساندة والمشاعر الإنسانية الطيبة فى تعزيز قدرات المريض ومساعدته على تجاوز محنته والتماثل للشفاء.
والحقيقة أن هذه الأمور الإنسانية ودورها فى الشفاء، أصبحت منذ عقود طويلة حقائق علمية موثقة لا ينكرها إلا تجار المرض والأطباء المزيفون، ولعل الدكتور الأمريكى «بيرنى سيجل» كان واحداً من أهم الأطباء الذين وثّقوا دور «معجزات الحب والمساندة العائلية» فى الشفاء من السرطان، وهو فى كتابه «معجزات الحب والطب والشفاء» يرصد مئات الحالات التى كانت على حافة الموت ولكنها شُفيت تماماً بسبب مشاعر الحب والدفء الإنسانى التى عثروا عليها من أقرب الناس إليهم أو حتى من جيرانهم أو أصدقائهم.
ولأننى من أشد المؤمنين بدور المساندة الإنسانية فى الشفاء من أكثر الأمراض غموضاً وشراسة، ومن أكثر المقتنعين بالقدرات الفذة التى وهبها الله للإنسان وبعبقرية الجهاز المناعى لكل إنسان فى حمايته من تداعيات أى مرض إذا وجد الدعم والمساندة والحب ممن حوله، فقد سارعت إلى اتخاذ قرار بإخراج شقيقتى الكبرى من الرعاية المركزة فى أحد المستشفيات، بعد أن تأكدت من أن حالتها تسوء يوماً بعد يوم، وأن كل «القياسات» الحيوية الخاصة بها تشير إلى تدهور سريع فى صحتها وقف بها على مشارف الموت.. ولا أنسى أبداً صوتها الواهن المعذَّب وهى ترجونى قبل أن تدخل فى غيبوبة أن أُخرجها من المستشفى لتموت على فراشها فى بيتها، والمدهش فعلاً أنها بعد خروجها بساعات قليلة وإحساسها أنها بين أبنائها وأحفادها، راحت تتحسن تدريجياً حتى تماثلت تماماً للشفاء خلال أيام، والأكثر إدهاشاً أنها هى التى قررت بعد ذلك أن لا تذهب شقيقتنا الصغرى إلى المستشفى عندما أصيبت بالفيروس، وأحاطتها برعاية حنونة كانت سبباً أيضاً فى نجاتها.
إن هذه التجربة الشخصية لا بد أن لها مثيلاً عند ملايين البشر حول العالم، ولابد أنها ستخضع ذات يوم لفحص أكاديمى يستخلص منها الأسباب العلمية التى تجعل من المساندة أو الدعم الإنسانى أحد أهم عوامل الشفاء من الأمراض، ومن العزلة أو الوحدة وانعدام الوَنَس أحد أهم عوامل الانهيار السريع للمرضى.
ولعل الشاب القبطى النبيل الذى أطل علينا فى فيديو مصور من شبرا، وهو يطالبنا بأن نكون رحماء وأكثر إنسانية فى معاملة مرضانا، قد وضع يده على واحد من أهم العوامل الطبية الغائبة فى معظم المنظومات الصحية حول العالم، حيث تتعامل مع المريض باعتباره «بؤرة عدوى»، وتُراكِم بداخله مشاعر الذنب وتمنعه فى الغالب من طلب المساندة خوفاً على أقرب الناس إليه من العدوى، ويرضى بعذاب الوحدة وقسوة العزلة حتى لا يكون سبباً فى إيذاء غيره، ولكنه فى الوقت ذاته يبكى فى مرارة من كآبة هذه العزلة القاسية.. وها هو الشاب يؤكد: «شُفت ستات كبيرة فى السن بيبكوا لأن مافيش حد من أهاليهم سأل عليهم»!
لا أحد يطالب بإهمال الإجراءات الاحترازية، ولا يمكننى أن أستهين بضرورة اتخاذ كل الاحتياطات الواجبة من العدوى، ولكن هذا الذعر الرهيب من المرضى والابتعاد الكامل عنهم وتركهم لقسوة الوحدة، لا بد أن له دوراً كبيراً فى وضع آلاف المرضى على شفا الانهيار السريع، وتعريضهم لموت مضاعف قبل أن يحين أجلهم.. فلنكن أكثر رحمة مع مرضانا، ولنُحِطهم برعاية حنونة «منضبطة» ستساعدهم حتماً على الإفلات من براثن هذا الوباء الأسود.