سيُقسم كل الحضور قَسم المجلس بعد قليل، وكنت من بينهم كأصغر أعضاء المجلس الأعلى للصحافة، بعد أن شملنا القرار الجمهورى فى 2005 باعتبارنا رئيساً لتحرير إحدى الصحف الحزبية.. كان مجلساً للنخبة المصرية إذا جاز التعبير، هناك الدكتور يونان لبيب رزق، والدكتور رفعت السعيد، والدكتورة آمال عثمان، وغيرهم وغيرهم، خصوصاً من الصحفيين.. فهنا إبراهيم نافع وإبراهيم سعدة وجلال عارف وغيرهم وغيرهم.. وفجأة دخل السيد صفوت الشريف يدشن اجتماعات المجلس، بصفته رئيساً لمجلس الشورى، الذى يتبعه «الأعلى للإعلام».. قضى وقتاً ليس قصيراً تحدث فى أشياء كثيرة، وكان فيها فَكهاً لم يتوقف عن التعليقات الساخرة، خصوصاً مع مناكفات الدكتور السعيد!
وقتها -فى هذا الاجتماع بمبنى المجلس الأعلى للصحافة الذى كان يجاور مبنى الحزب الوطنى، وقد تم هدمهما بعد تعرضهما للحرق فى أحداث يناير- عدنا عشر سنوات للوراء تقريباً.. أعادت الذاكرة صورة وصوت الإعلامى الكبير الراحل أحمد سمير، واحد من أساطير التليفزيون المصرى العظيم، وهو يباغتنى فجأة، ويسألنى: «وانت تعرف الدكتور أحمد يوسف منين؟»، قلت: «أنهيت دراسة العلوم السياسية بجامعة أسيوط، وربما أكمل الماجستير عند الدكتور يوسف فى معهد الدراسات العربية، فضلاً عن أننى من المعجبين به». والدكتور أحمد يوسف لمن لا يعرف، أحد أهم أساتذة العلوم السياسية وأكثرهم قبولاً وأدباً وعلماً، وكان متخصّصاً فى النظام العربى.. المهم تحدث الإعلامى الكبير أحمد سمير عن يوسف إيجابياً ومدحه وتمنى لى التوفيق.. كنت قد انتهيت على التو أمامه من اختبارات التقدم للعمل مذيعاً بالقناة السابعة، وقدّمت مشهداً افتراضياً استضفت فيه افتراضياً أيضاً الدكتور أحمد يوسف وحاورته، وكانت ملامح الإعلامى الكبير مطمئنة.. مبتسماً ودوداً.. وقبلها كانت أن احتشد لنا الوسطاء.. فلا حل للقبول فى مثل هذه الأماكن إلا بالواسطة.. أعمل محرراً مع الكاتب الكبير مصطفى بكرى وتوسط.. وابن العم المخرج التليفزيونى الكبير محمود حسن الشريف توسط.. والمخرج المسرحى الكبير إيمان الصيرفى توسط.. لكنه زاد فى الوساطة وطلب -كما أبلغنى- من الفنان الكبير حمدى غيث التوسط وأبلغه أنه توسط بالفعل!
ولم يبق أمامنا إلا إعلان النتيجة والقبول.. الا أن كل ذلك ذهب مع الريح.. أبلغنا الأستاذ الصيرفى أن «غيث» أبلغه أن صفوت الشريف شاهد بنفسه فيديو لكل المقبولين، وعندما شاهدنا، قال «الولد ده مش مقنع إنه من الصعيد.. لا البشرة سمرا، ولا شعره ولا عيونه.. خرّجوه»!!
تذكّرت هذه القصة عندما وجدتهم فى جريدة «الأسبوع»، التى كنت أعمل بها حتى مغادرتها نهائياً فى 2005، وأبلغونى أن «الريس يبحث عنك فى كل مكان»! تعودنا على هذه الاستدعاءات، وبكل هدوء دخلت مكتب الأستاذ بكرى، فقال على الفور: «انت كتبت إيه عن التليفزيون؟!»، فقلت: «لا شىء»، فقال: «ولا عن صفوت الشريف؟!»، فقلت «لا».. قال: صفوت الشريف اتصل منذ قليل، وقال «إحنا عايشين ولسه أحياء أهو ولسه الفئران ما أكلتناش»!، ولم أتمالك نفسى ورُحت فى الضحك.. فقد كنت وقتها أحرر عدة أبواب فى وقت واحد، منها زاوية ساخرة عنوانها «دردشة»، عبارة عن رسائل من القراء وأتفاعل معها بالتعليق بشكل ساخر، وكان أن أحد القراء تحدّث عن مسلسل «وادى فيران»، وكان المسلسل أثار وقتها جدلاً واسعاً من كثرة أزماته وخلافات بين مخرجه الراحل الكريم علاء كريم، وبعض أبطال، أو قل بطلات المسلسل.. وكنت علقت بسطر واحد قلت فيه «جاتهم فيران لما تاكلهم»، وكان هذا السطر الصغير المكون من أربع كلمات داخل زاوية صحفية صغيرة أمام وزير الإعلام بعد ساعات من صدور العدد!!
لماذا نقول ذلك؟ السطور السابقة ليست حواديت للتسلية، وإنما للقول إن تركيبة صفوت الشريف الذى كان يتابع بنفسه كل صغيرة وكبيرة!
الآن نقول الحمد لله أننا لم نقبل فى قناة الصعيد.. مع احترامنا الكامل وتقديرنا لكل من فيها.. لكن يبدو أن العمل الصحفى أكثر جاذبية.. وأكثر تحرّراً من العمل فى قناة رسمية كانت لها وقتها ضوابط عديدة.. أعادنا ذلك عندما سمعنا صوت ضجة هزت شارع طلعت حرب عند مدخله من ناحية التحرير.. كان المشهد مؤلماً.. أحدهم يبدو أنه شخصية نافذة، ويهين بشدة وبعبارات جارحة مواطناً آخر يرد بكل هدوء ويقول «أنا أستاذ فى الجامعة، وده مايصحش اللى بتقوله»، ويكمل الآخر الإهانات!!
رفضت أن أغادر المكان كالآخرين خوفاً من بطش ذلك الذى تفوق صوته على صوت الضجيج فى هذه المنطقة، وبالتقصى فهمت.. هذا الرجل والذين حوله هم رجال حراسة صفوت الشريف رئيس مجلس الشورى، وأنه فى هذا المبنى فى زيارة علاجية عند الجراح المصرى العالمى الدكتور أحمد شفيق، وكانت عيادته به..!!
غادرنا وكتبنا الواقعة بعنوان قاسٍ فى جريدة «الأحرار».. التى كانت تعانى من فراغ مسئولية بعد رحيل مؤسسها مصطفى كامل مراد، وكانت تحت إشراف إدارى مباشر من مجلس الشورى.. ومع ذلك نشرت «الأحرار» المقال كاملاً، ووافق عليه على الفور الأستاذ عصام كامل مدير تحرير «الأحرار» وقتها، ورئيس تحرير «فيتو» الآن.. ولم يغضب أحد!!!
الآن رحل الشريف.. وصار عند ربه.. ووحده سبحانه وتعالى من سيحاسبه!