من المرجح استمرار فترة تضميد الجراح الأمريكية لوقت طويل، رغم انقضاء مراسم التنصيب. سلسلة الانقلابات التى هزت صورة أمريكا يمكن اعتبارها شأناً داخلياً.. فى المقابل، على صعيد السياسة الخارجية من حق مصر أن تطرح بعض المراجعات فى سياق تحديد سياسة المصالح المشتركة بين البلدين مع دخول الوافد الجديد إلى البيت الأبيض بعد فشل أول اختبار مرت به شعارات أمريكا وفق قوالب نمطية تم توظيفها سياسياً أو شخصياً تم تطبيقها على عدة دول العقود الماضية. المؤكد أن التعاون فى ملفات مختلفة بين مصر والإدارة الأمريكية الجديدة للرئيس بايدن لن تتوقف، لكن المتغيرات ستفرض صيغاً مختلفة، خصوصاً فى ورقة الديمقراطية التى طالما بالغت أمريكا فى التبشير بكونها النموذج الأمثل لها، ولوحت بها لدول المنطقة دون اكتراث أن تراجع نفسها حول أدق تعريفات الكلمة.. القبول بقرار الأغلبية والاعتراف بالخطأ وتصحيحه.
أمريكا لم تُخف تحفزها ضد قرار 35 مليون مصرى ومصرية لاستعادة بلدهم ووأد انقسام كانت تسعى إلى فرضه عصابة ولو بقوة السلاح.. بل إن بعض أصوات إعلام ومراكز أبحاث أمريكا ما زالت تُردد «النغمة الصبيانية» ضد مصر بين كل فترة وأخرى!. من حق مصر مراجعة الإدارة السياسية فى حال تفكير بعض الشخصيات الديمقراطية استقبال أفراد عصابة مارست بدم بارد ما تجاوز أضعاف وحشية مظاهر الفوضى التى ضربت الكونجرس يوم 6 يناير، رغم أن «الديمقراطية الأمريكية» غضت بصرها عن مشاهد كل الأدلة الموثقة بالصوت والصورة.. بل اخترعت لهم تصنيفاً غريباً ما أنزل الله به من سلطان وهو الإسلام السياسى! كما اعتبرت مجرمى الإرهاب معتقلين سياسيين!.. صفة لا يُعقل إطلاقها على من تم اعتقالهم على خلفية أحداث العنف الذى شهده الكونجرس. من حق مصر مراجعة الديمقراطية الهشة حين غاب عن أمريكا أن المحافظة على هذه القيمة السياسية أصعب كثيراً من نيلها أو حبسها داخل نمط متجمد لا يسمح بتطبيقها كواقع سياسى يفرض مستجداته وفق متغيرات وطبيعة كل دولة.. إزاء فشل النمط الأمريكى حين يتغافل عن جوهر الديمقراطية فى حماية رغبة شعب، أو عند توجيهه ملفات مثل حقوق الإنسان نحو مسارات مشبوهة تتجاهل حقيقة أن الحقوق والحريات بوجه عام قد تختطفها مخالب الفوضى والخراب إذا لم ترتبط بضمان حقوق قائمة على أسس صالح المواطن وظروفه الاجتماعية والاقتصادية وتحقيق الاستقرار. لعل آخر الأدلة التى تؤكد حاجة أمريكا إلى مراجعة اضطراب قراراتها إدراج تنظيمى ولاية سيناء وحسم ضمن قوائم الإرهاب وتجاهل حقيقة اعتراف قادة جماعة حسن البنا والتنظيم الدولى للإخوان أنهما الأذرع المسلحة للجماعة، وأى تناقض دستورى سيقع فيه بعض الديمقراطيين مثل إلهان عمر، توم ماليونسكى، باتريك ليهى، حال استقبالهم أعضاء الجماعة فى مكاتبهم داخل الكونجرس.
من حق مصر -بل المنطقة العربية- مراجعة كل الشعارات التى صدعونا بها بعدما جمدوا فضيلة الديمقراطية خدمة لأهداف أو مطامع سياسية هى مجرد بيوت من رمال عملت أمريكا على تصديرها للعالم.. والدليل النموذج «الهيكلى» للديمقراطية الذى رسخته فى العراق بعد 2003 القائم على أسوأ قواعد.. المحاصصة الطائفية، تسليم سيادة القرار السياسى والأمنى إلى مطامع إقليمية سرعان ما غرست مخالبها لنهش كل مظاهر الاستقرار فى العراق.. ثم حين نسفت كل قواعد الدولة فى ليبيا لتتركها «أرض ميعاد» مستباحة من كل التنظيمات التكفيرية.. نماذج صارخة على الخلط بين الآراء المرسلة والحقائق وعدم وضوح الفارق بينهما. تفشى هذا «الفيروس» فى وسائل الإعلام الأمريكى أدى للأسف إلى إسقاط جميع أوراق المهنية والموضوعية حتى تحولت إلى أدوات لإذكاء نار الانقسام الذى شرخ المجتمع وأصبح يهدد الولايات المتحدة التى قد لا تعود متحدة بعد ذلك مع غضب تقريباً نصف الرافضين للواقع السياسى الجديد بصرف النظر عن شرعنة أسلوبهم فى التعبير.
المؤكد أن الصورة التى سعت أمريكا لتكريسها فى بعض دول المنطقة العربية بحاجة إلى مراجعة شاملة عند رسم ملامح سياستها الخارجية مستقبلاً بعدما شاهد العالم اهتزاز مصداقية قدس الأقداس أو مبنى الكابيتول متمثلاً فى ردود فعل رئيس مجلس النواب نانسى بيلوسى، بعد أحداث الكونجرس، التى قامت على دوافع انتقام شخصى لا طائل من ورائه لإخراج «ترامب» بوصمة عار بدلاً من وضع الصالح العام على أولويات الصرح التشريعى العريق، خصوصاً أن التهديد الأول حالياً للأمن القومى يكمن فى الانقسام الداخلى الذى أصبح عميقاً واستثنائياً، فالمطالبات من كلا الحزبين لم تعد تلقى آذاناً مصغية.. ولم يعد هناك طرف سياسى يقف فى منطقة الوسط بعدما أصبح الجميع مع طرف ضد آخر.
ملفات المصالح المصرية - الأمريكية لا يمكن تغييب أحداث 6 يناير 2021 عنها بعدما أثبتت صواب الرؤية المصرية التى اختارت إقامة بنائها السياسى على قواعد ديمقراطية هى الأصح والأكثر استقراراً مقابل هشاشة النموذج الأمريكى.