«١»
وقف «إياد».. الطفل ذو العشر سنوات يتأمل الفوضى التى خلفتها تلك القذيفة التى انطلقت لتدمر منزله، لم يكن يتخيل يوماً أن يرى أمه تبكى بهذه الحرقة، دون أن يملك أبوه ما يواسيها به.
لم يكمل «إياد» طعامه الذى وضعته أمه على المائدة، لن يكمل الرسم الذى بدأه الذى يصور علماً فلسطينياً يرفرف فى فناء مدرسته الصغيرة وتلاميذ من زملائه يقفون لتحية العلم، لقد هُدم منزل «إياد»، وانهارت مدرسته التى رسمها.
فقد «إياد» عالمه الصغير، ولا يعلم أحد هل سيمتلك يوماً عالماً آخر، أم سيكون مصيره كمصير من عاشوا فى مخيمات اللاجئين التى سمع عنها ولم يتخيل مستقبلاً لقاطنيها؟
«٢»
نظرت الأم المكلومة إلى الصورة التى تحملها فى يدها، وتمنت لو عاد بها الزمن ووافقت على الرحيل مع أهلها إلى الضفة.
لقد رفضت هى وزوجها أن يتركا منزلهما، وأصروا على البقاء فى المدينة التى نشأوا وتربوا فيها، واستطاعوا خلال زواجهم، الذى تم منذ خمس سنوات، أن يصمدوا فى ظل الحصار الحديدى الذى كان حولهم، وفى ظل أزمات مستمرة من نقص الوقود والمواد الغذائية، حتى استطاعت بعد عامين من الزواج أن يرزقهما الله بـ«سلمى».
كانت رقيقة كالسحاب، بيضاء مشربة بالحمرة، تحمل ابتسامة صافية.
لقد دمر العدو الإسرائيلى بيتهما الصغير، هدم حياتهم وماضيهم بمنتهى البساطة، ليس هذا فحسب، فقد دمر مستقبلهم أيضاً، لقد قتل «سلمى»!
لن ترتدى «سلمى» ثوبها الجديد فى العيد المقبل، لن تبتسم وهى تجلس أمام التلفاز لتشاهد الرسوم المتحركة التى تعرضها تلك القناة المصرية التى يشاهدونها باستمرار، هذا فى الفترة التى يعود فيها التيار الكهربائى إلى منطقتهم.
لن تضم «سلمى» فى أحضانها ثانية، فقط ستتأمل صورتها، وهى تمنى نفسها بالبكاء لتستريح!
«٣»
لم يتخيل «مازن» حين رأى هذا النور الساطع يقترب من شباك منزله، وبعد أن ذهب وعيه فور اصطدام تلك القذيفة بمنزله، أنه سيفيق على كل هذا الألم.
كل عضلة فى جسده تئن بشدة، لقد كتب الله له عمراً جديداً، بعد أن تم إنقاذه من تحت الأنقاض، وذهبوا به إلى ذلك المستشفى الصغير.
لم تكن إصاباته خطيرة، يبدو أنه لهذا السبب تحديداً ما زال حياً، فالمستشفى لا يمتلك إمكانيات لعلاج الحالات الخطيرة، لقد كان محظوظاً ببقائه حياً، أو هكذا يفترض أن يكون!
سرح بخياله كيف كان يتمنى أن يصبح لاعباً شهيراً لكرة القدم، تذكر صورة «أبوتريكة» المعلقة فوق رأسه فى حجرته، ثم تذكر أنه لم تعد لديه حجرة من الأساس.
هل ما زال الحلم مسموحاً به؟
«٤»
إنها ليست المرة الأولى التى يحدث فيها اعتداء على قطاع غزة من قوات الاحتلال الإسرائيلية، بل وليست المرة الأولى التى يخرج فيها رد الفعل الرسمى والحكومى ضد هذه الاعتداءات بهذه الصورة من الضعف، ولكنها المرة الأولى التى نكتشف فيها أن العدو المزمن قد أصبح له ظهير شعبى، وصل به من «الوقاحة» أن يبرر له أفعاله ضد هؤلاء الأطفال!
لم يدعم هؤلاء الأطفال حركة «حماس» من قبل، ولم يقتلوا الجنود المصريين فى رفح، ولكنهم ماتوا وأصيبوا واختفى عالمهم الصغير من حولهم دون ذنب اقترفوه سوى أنهم ينتمون لهذا الإقليم المنكوب.
إدانة الاعتداءات الإسرائيلية لا تحتاج إلى رأى حكومى رسمى، ولا تحتاج إلى تعليمات عليا، تحتاج فقط إلى أن تكون محتفظاً ببعض من إنسانيتك!
لن يرتدى هؤلاء الأطفال ملابس العيد، لأنهم ببساطة لا يملكون العيد!