فى الحروب كما فى الحياة، هناك لحظات صعود وأخرى هبوط، والمهم أن يدرك القائمون على الأمر كيف يمكن الاستفادة من لحظة هبوط لاستعادة الصعود مرة أخرى. أقول هذا وعينى على حادث الفرافرة الإرهابى فى مصر والأفعال المماثلة له فى أكثر من بلد عربى، وهو الأمر الذى يفتح أعيننا على الكثير من الأبعاد والزوايا للحرب التى تشنها قوى عديدة على بلادنا، مستهدفة أن تحولها إلى حالة خراب أخرى كالتى تعيشها بلدان عربية عديدة. ولعل أبرز هذه الدلالات ما يأتى:
أولا: أن المعركة التى تخوضها مصر الآن ليست معركة منفصلة عن مستقبل الإقليم ككل، وقبل عدة أيام من حادثة الفرافرة كان هناك تصريح مهم للغاية لوزير الداخلية المغربى أمام الغرفة الثانية للبرلمان هناك، أشار فيه إلى أن أجهزة الأمن المغربية رصدت ما يقرب من 2000 مغربى يشاركون فى تنظيم «الدولة الإسلامية فى العراق والشام» المعروف اختصاراً باسم «داعش»، ومن هؤلاء المغاربة عدد معتبر يتولون مناصب عليا فى هذا التنظيم، وأن من بين هؤلاء نحو 1200 مغربى سافروا من المغرب مباشرة للمشاركة فيما يعتبرونه جهاداً من أجل الإسلام ودولة الخلافة، وأن الباقين هم من أصول مغربية يعيشون فى دول أوروبية ويحملون جنسيتها، وأن الكثير من هؤلاء تحولوا إلى انتحاريين. كما أشارت تقارير إخبارية إلى أن أجهزة أمنية مغربية رصدت عودة مجاميع من هؤلاء من العراق إلى ليبيا للمشاركة فى تأسيس فرع لدولة الخلافة هناك، والانطلاق منها إلى الدول المجاورة. بعبارة أخرى ليبيا بوضعها الراهن حيث لا دولة وحيث توجد هيمنة للجماعات الفوضوية والإسلامية العنيفة والتكفيرية، قد أصبحت الآن مصدر تهديد لكل جيرانها، وكما حدث فى الفرافرة حدث أمر مماثل حين هاجمت جماعة إرهابية مسلحة وحدة أمنية على الحدود التونسية الليبية، وقتلت عدداً كبيراً من أفرادها.
وإذا استمر الوضع الليبى على حاله فمن المؤكد أن تتحول ليبيا ككل إلى مركز لتصدير الإرهاب إلى عموم دول شمال أفريقيا، الأمر الذى يوجب سرعة التحرك إقليمياً لمواجهة هذا الخطر المحدق، وإذا كنا نرى بداية مشجعة لتعاون ذى طابع معلوماتى مصرى جزائرى بشأن ما يجرى فى ليبيا، فمن الأوفق أن يتم توسيع هذا التعاون ليشمل المملكة المغربية أيضاً، وأن يتم توسيع هذا التعاون ليكون أكبر من مجرد تبادل المعلومات الأمنية، وربما فى مرحلة تالية حين يدرك أشقاؤنا فى تونس أنهم معرضون أيضاً لخطر داهم، فقد تصبح لديهم إرادة التعاون فى سياق إقليمى ضد الجماعات الإرهابية التى ترفع رايات الإسلام زوراً وبهتاناً.
ثانياً: كثرة هؤلاء الذين يحملون جنسيات أوروبية، ولكنهم متورطون فى جماعات إرهابية تعيث فساداً فى البلاد العربية، وهو أمر يطرح أحد احتمالين؛ إما أن جهات الرصد والاستخبارات فى البلاد الأوروبية ليست بالكفاءة التى تكتشف هؤلاء، ومن ثم يتم التعامل معهم باعتبارهم أعضاء فى جماعات إرهابية، وهو احتمال يبدو ضعيفاً فى ضوء الإمكانات الكبيرة التى تتمتع بها جهات الرصد والاستخبارات الأوروبية. أما الاحتمال الثانى فهو أن هؤلاء الحاملين لجنسيات أوروبية ومتورطين فى جماعات إرهابية كـ«داعش» و«جبهة النصرة» و«الكتيبة الألمانية» و«المجموعات الفرنسية» يعملون تحت رعاية أجهزة الاستخبارات الغربية نفسها، كجزء من خطة تصدير الفوضى والعنف إلى البلاد العربية، وبالتالى يتحقق لهم هدفان؛ الأول: أن تتخلص البلدان الأوروبية مما تعتبره مخزون العنف الإسلامى لديها، والثانى: أن تترك مصير المنطقة معرضاً للتغيير، فإن حدث انتصار هؤلاء الإرهابيين فقد يكفون الضرر عن المجتمعات الأوروبية باعتبارها قد سهلت لهم هذا الانتصار، وإن حدثت هزيمتهم فقد ينتهى شرهم. بعبارة أخرى أن يُصدر الأوروبيون مشكلة الإسلام السياسى لديهم إلى بلدانهم الأصلية، وإلا كيف نتصور بلادة وغباء واستخفاف الاستخبارات الأوروبية فى متابعة كل هؤلاء الذين ينغمسون فى جماعات إرهابية من حاملى الجنسيات الأوروبية، ويتركون لهم حرية السفر والمشاركة فى أعمال إرهابية فى أكثر من بلد دون محاسبة أو متابعة أو حتى تقديم معلومات للدول العربية المستهدفة؟
ثالثاً: استخفاف التكفيريين والجهاديين القاعديين وأنصارهم الشديد بحرمة النفس البشرية وقتلها بأعداد كبيرة والاستمتاع بالدماء على نحو سادى، وذلك تحت وهم أن ذلك سوف يؤدى إلى تثبيت حكم إسلامى ذى توجه عالمى. ولا شك أن هناك بعداً نفسياً يستهدفه هؤلاء الإرهابيون وهو إشاعة الخوف فى المجتمعات الإسلامية، حتى إذا وقع أحد هذه المجتمعات تحت وصاية هؤلاء الإرهابيين، فيميل إلى التكيف مع الواقع الجديد دون مقاومة. ودون الخوض كثيراً فيما يعرفه كل مسلم حق عن قيمة النفس البشرية وحرمة الاعتداء عليها والعقاب الشديد والعذاب المقيم الذى سيناله من يقتل مسلماً دون حق مشروع، فإن ما تفعله هذه الجماعات التكفيرية يدلل على مدى الانحراف الفكرى والدينى الذى وصلت إليه، ويفرض بدوره أهمية خاصة للمواجهة الفكرية والتربوية والإعلامية لكل القناعات التى تسربت بين قطاعات من الشباب العربى وأهلتهم ليكونوا إرهابيين بامتياز. ومرة ثانية، فإن هذه المواجهة لن تؤدى الغرض منها إلا فى سياق إقليمى وجماعى يستهدف إعادة الاعتبار إلى المبادئ الإسلامية الوسطية، وحماية الأجيال الجديدة من الوقوع فى براثن المنظمات الدينية الإرهابية، وأعتقد أن الجامعة العربية مؤهلة لهذا الدور أو على الأقل الإسهام بنصيب وافر.
رابعاً: أن أحد أهم أهداف الجماعات الإرهابية يتمثل فى القضاء على الوجود المسيحى فى الشرق العربى كله، ومن ثم تغيير هوية المنطقة الحضارية وإنهاء تعدديتها الدينية. ونشير هنا إلى ما حدث فى الموصل على أيدى عناصر «داعش» الإرهابية، حيث خيَّرت المسيحيين فى الموصل بين تغيير الدين أو الجزية أو التعرض للقتل، مع السماح لهم بالهروب والتخلى عن كل ما يملكون، والتعامل مع هذه الممتلكات الخاصة باعتبارها غنائم، فيما يقدم نموذجاً فجاً باسم الإسلام فى تشكيل العلاقة مع أهل الكتاب. ومما يثير الدهشة هنا أننا لم نسمع كلمة إدانة غربية واحدة لما يجرى للمسيحيين فى الموصل!
الدلالات السابقة ليست سوى جزء من كل، وتكشف معاً عظم الخطر المحدق بنا، فهى الحرب ولا بديل عن الانتصار الساحق فيها.