اعتاد باحثو العلاقات الدولية على التفرقة بين نوعين من التهديدات التى تواجه الدول الوطنية؛ أولهما تهديدات ناعمة مثل عصابات التهريب للبشر والمخدرات والأسلحة والسلع المغشوشة، والتى تؤثر على الاقتصاد وعلى تنشئة الأجيال الجديدة وتثير مشكلات مجتمعية متنوعة. وثانيهما تهديدات صلبة وهى الأزمات التى ترقى أو تمهد إلى إعلان الحرب وشن المواجهات العسكرية النظامية مع أطراف أخرى، وهى أيضاً التهديدات التى تمس وجود الدولة وأراضيها ونظامها السياسى والاجتماعى على نطاق واسع. والفارق الرئيسى بين هذين النوعين من التهديدات يتعلق بحجم التهديد ومصدره وقدرة الدولة على احتوائه. وهناك الكثير من الدول لا ترى فى النوع الأول تهديداً حقيقياً وإنما مجرد إزعاج لأجهزة الأمن ومؤسسات الدفاع الاجتماعى، وترى أن الهدف من تحركات المجموعات والمافيات عبر الحدود هو مجرد الحصول على مكاسب مادية وحسب، وأن الأمر لا يشكل أى خطر على وجود الدولة ذاتها ونظامها السياسى ومؤسساتها. ويُعد مثل هذا التفسير مقبولاً جزئياً إذا كانت الدولة قوية بحق ولديها الإمكانات التى تجعل هذه التهديدات مجرد إزعاج ونوعاً من الكر والفر بين الأجهزة الأمنية والعصابات المختلفة، والمثل الأكبر هنا حالة الحدود المكسيكية الأمريكية.
أما فى حالات أخرى، مثل تلك التى تعيشها بلدان عربية عديدة، فمن الصواب القول إن هذه التفرقة الكلاسيكية هى مجرد خلاف فى الشكل، أو لنقل إن الفصل النظرى بين تهديد ناعم وآخر صلب لم يعد موجوداً على أرض الواقع، وحجتنا فى ذلك أن ظاهرة الإرهاب التى يعانى منها العديد من الدول تطورت وأصبحت الآن تمثل مصدر تهديد رئيسياً من النوع الصلب الذى يمس عصب الدولة ومؤسساتها ونظام قيمها، ويستهدف أيضاً أكثر من دولة فى آن واحد. وهى الظاهرة التى تتداخل بقوة مع التهديدات الأخرى مثل التهريب بأشكاله المتنوعة واختراق الحدود والمساس بسيادة الدولة، كما أنها أصبحت ظاهرة شبكية تنتشر فروعها وخلاياها فى أكثر من بلد وتستفيد بأقصى قدر من التطور الهائل فى مجال الاتصالات المفتوحة والفضاء الإلكترونى لنقل التعليمات وتجنيد الأفراد ونشر الأفكار والصور والبيانات والتهديدات على نحو يجلب لها حضوراً مهماً ومؤثراً فى المشهد العام محلياً وإقليمياً، ودولياً أيضاً، كما باتت ظاهرة مرتبطة بتحركات أجهزة استخبارات لدول كبرى تعمل على توظيفها لإحداث اختراقات ذات طابع استراتيجى فى مناطق مختلفة من العالم، ولكى تكون أداة طيعة لإعادة هيكلة الدول والضغط عليها لتصبح متوافقة دوماً مع المصالح الكونية للقوى الكبرى. وفى مقال الأسبوع الماضى قمنا بتفصيل وتحليل العديد من الأبعاد الخطيرة التى باتت عليها ظاهرة الإرهاب التى تواجه بلادنا العربية وفى المقدمة مصر، وعلاقاتها بالاستخبارات الدولية وخططها فى إعادة رسم خرائط الدول والمجتمعات العربية دون أن تتورط الدول الكبرى مباشرة فى هذه العملية القذرة.
وبناء عليه يصبح من المنطقى أن تتطور قدرات الدول واستراتيجياتها وتكتيكاتها وحملاتها السياسية والإعلامية لمواجهة هذه الظاهرة، ودون هذه التطويرات الضرورية تصبح الدولة المعنية والمستهدفة مؤهلة للانكشاف والانقسام والتفتت، ولعل حالة العراق فى ظل حكم المالكى خير شاهد. وفى المقابل نجد حالة الجزائر إبان عقد التسعينات، حين استنفرت كل قواها وطورت من أدائها السياسى، وإن بصعوبة بالغة، مشفوعاً بتطوير أمنى وعسكرى، لمواجهة جماعات الإسلام السياسى المتحالفة مع المافيات المتطرفة عقدياً وفكرياً، وكانت النتيجة أن أصبحت الجزائر تشكل مدرسة فى حد ذاتها من الخبرات الرئيسية فى مواجهة ظاهرة الإرهاب والعنف. وهو الأمر الذى جعل تونس تلجأ إليها مؤخراً للحصول على دعم مناسب فى مجال الأسلحة والتدريب لتقوية قدراتها على مواجهة جماعات التطرف والإرهاب والعنف النشطة فى جنوب البلاد ووسطها. ومصر أيضاً صاحبة تجربة ثرية بمقاييس عقد التسعينات فى مواجهة عنف جماعات الإسلام السياسى والأمر نفسه ينطبق على التجربة السعودية.
ومع ذلك يمكن القول إن التكتيكات القديمة لم تعد كافية فى حد ذاتها حتى لو حققت بعض النجاحات المبهرة كما يحدث فى مصر الآن سواء فى سيناء أو فى دلتا مصر وصعيدها، وأبرز تلك التكتيكات القديمة أن تعتبر الدولة أن الظاهرة الإرهابية التى تواجهها هى مجرد ظاهرة محلية ومن ثم تجعل كل تحركاتها المضادة مرهونة باعتبارات محلية وحسب سواء على الصعيد الأمنى أو الفكرى. وهنا تتبدى المفارقة الكبرى، فبينما تتطور الظاهرة الإرهابية لتصبح عابرة للحدود، تستند المواجهة من هذه الدولة أو تلك إلى أسس فردية وذاتية محضة. وحين نقول إن الظاهرة الإرهابية صارت عابرة للحدود وصارت تعتمد التنظيم الشبكى متعدد الأطراف كثيف الانتشار متعدد الخلايا، يصبح من المنطقى أيضاً أن يكون للمواجهة الذاتية والمحلية أفق محدود فى النجاح، فالشبكات لا تُواجَه إلا بالشبكات، والقضاء على الظاهرة الإرهابية الراهنة سواء باسم الإسلام أو باسم الخلافة أو بأى اسم آخر يتطلب عملاً جماعياً بالدرجة الأولى، يتحول من مجرد التوقيع على الاتفاقيات الدولية والإقليمية لمكافحة الإرهاب والتطرف والعنف، إلى ممارسة تحرك جماعى حقيقى منظم ومُدرب على أعلى مستوى. وقد رأينا مؤخراً اتفاق أربع دول أفريقية، وهى نيجيريا والكاميرون وتشاد والنيجر، لتشكيل قوة أفريقية خاصة بمواجهة جماعة «بوكو حرام» المتطرفة والمسئولة عن أعمال إرهابية عديدة فى شمال نيجيريا والآخذة فى التمدد فى دول مجاورة، على أن يتم التنسيق بين هذه القوى المشتركة ومجموعة دول الساحل والصحراء لمواجهة التطرف والعنف ومحاولات هدم الدولة.
وأعتقد أن الدول العربية جديرة بأن تحذو حذو هذه الدول الأفريقية، وأن تفكر بجدية وبسرعة فى تشكيل قوة مواجهة إقليمية عربية لمحاربة جماعات التطرف والإرهاب والتكفير. ومن واجب مصر أن تكون السبّاقة فى هذا المجال، وأن تطرح الفكرة على كل الدول العربية بعد دراستها من حيث التمويل والتدريب والتشكيل وتنسيق المهام وقواعد الاشتباك والقيام بعمليات مشتركة على الحدود المشتركة أو على حدود أخرى تربطنا بها مصالح وقيم ومصير مشترك. الأمر باختصار بحاجة إلى تفكير من نوع جديد يتخلص من الحساسية المفرطة التى تتمسك بها دولنا العربية فيما يخص السيادة، وهى الحساسية التى تعوق التحول من رد الفعل إلى فعل بنّاء وخلاق، فالمصير المشترك يتطلب أيضاً أداء وإنجازاً مشتركاً.