على مدى أربعة عشر عاماً، جرت حوارات فلسطينية عديدة تحت مظلة البحث عن مصالحة وإنهاء الانقسام، واستعادة اللحمة الوطنية. ورغم الجهود التى بذلتها مصر ودعم أشقاء عرب لإنهاء الانقسام وتوحيد التحرك الفلسطينى، ظلت الأمور على حالها، إن لم تكن قد زادت سوءاً، وهو الأرجح.
ومع ذلك لا بديل عن بذل الجهد السياسى لإقناع الأطراف الفلسطينية بضرورة وأهمية التخلص من تراث تلك المرحلة الانقسامية، وبدء مرحلة تراعى جميع التطورات الدولية والإقليمية، وأبرزها تولى بايدن الرئاسة فى الولايات المتحدة، ونجاح إسرائيل فى توقيع أربع اتفاقات تطبيعية مع دول عربية.
قبل يومين، شهدت القاهرة عقد حوار فلسطينى شارك فيه 15 فصيلاً سياسياً، ورغم أنه لا يناقش المصالحة وإنهاء الانقسام بصورة مباشرة، فإن موضوع الحوار المتعلق بتنظيم الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمجلس الوطنى الفلسطينى، بداية من مايو المقبل وبصورة تتابعية، لا يمكن إنجازه إلا إذا سادت إرادة سياسية جماعية بتجاوز مرحلة الانقسام بكل تفاصيله وتعقيداته، مع الاحتفاظ بحق الاختلاف فى مسائل إجرائية وليست استراتيجية، من قبيل كيفية تنظيم الإشراف العربى والدولى على الانتخابات، ودمج انتخابات المجلس الوطنى الفلسطينى مع الانتخابات التشريعية من عدمه، وعقد الانتخابات فى القدس الشرقية والعقبات الإسرائيلية المنتظرة، وتنظيم الحملات الانتخابية، وبحث تشكيل قائمة انتخابية موحدة بين حركتى فتح وحماس، والمحاكم التى يحق لها نظر الشكاوى الانتخابية. وهى كلها قضايا يتداخل فيها البعد التنظيمى مع الوضع السياسى. ومن غير المنطقى حكماً أن يتعاون الطرفان الرئيسيان وهما حركة فتح وحركة حماس فى إنجاز الانتخابات بعد حسم الإشكاليات المشار إليها، ثم قبول نتائجها دون مصالحة، ودون التوافق على عدة محاور رئيسية تتعلق بكيفية التعامل مع استحقاقات النضال السياسى لمواجهة إسرائيل فى المرحلة المقبلة، فى ظل إدارة أمريكية جديدة تضع الدبلوماسية نُصب أعينها، وتميل إلى فتح حوارات جادة مع السلطة الفلسطينية لتُنهى مرحلة ترامب السوداء، وإصلاح الجزء الأكبر من تداعياتها الظالمة للفلسطينيين.
لقد جاء قرار إجراء الانتخابات فى وقته المناسب تماماً. فإن نجح حوار القاهرة فى الاتفاق على تفاصيل العملية الانتخابية والالتزام بالتعاون الجاد لإنجاز انتخابات شفافة والقبول بنتائجها أياً كانت، فمن الطبيعى أن تدخل القضية الفلسطينية مرحلة جديدة، عنوانها الأبرز ترميم النظام السياسى الفلسطينى، وإدخال عناصر وكوادر جديدة فى صلب العملية السياسية، واستعادة الوحدة المفقودة، وإرسال أكثر من رسالة إلى المجتمع الدولى كله تؤكد حيوية الشعب الفلسطينى ومؤسساته.
يأتى حوار القاهرة فى ظل بيئة دولية وإقليمية تشهد تحركات مختلفة فى مسارات متعدّدة، تمتزج فيها انتصارات معنوية وسياسية مهمة، وأخرى تطرح الكثير من العقبات والمعوقات، التى يتطلب التغلب عليها امتلاك قوة ضغط سياسى ومعنوى لن تتحقق إلا بتشكيل حالة وحدة فلسطينية حقيقية. ومن أهم الانتصارات المعنوية والدبلوماسية قرار المحكمة الجنائية الدولية بولايتها الإقليمية على فلسطين باعتبارها دولة طرف فى نظام روما الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية، ومن ثم تمتد تلك الولاية إلى الأراضى التى تحتلها إسرائيل منذ عام 1967، وتحديداً قطاع غزة والضفة الغربية، بما فى ذلك القدس الشرقية. ورغم تحفّظات قرار المحكمة بشأن عدم امتلاكها قوة التدخل فى تحديد الحدود المتنازع عليها بين أطراف أعضاء فى المحكمة، إلا أنها أكدت أن الأراضى المحتلة فى عام 1967 هى التى تمثل أراضى فلسطين. وهى صيغة قانونية فصلتها المحكمة تدعم بقوة أحقية الفلسطينيين فى إقامة دولتهم المستقلة على عموم الأراضى التى احتلتها إسرائيل فى عام 1967، وبما يشكل انتصاراً دبلوماسياً مهماً.
وفى السياق ذاته، جاء قرار اجتماع وزراء الخارجية العرب الذى عُقد بمبادرة مصرية - أردنية، فى اليوم ذاته الذى بدأ فيه الحوار الفلسطينى بالقاهرة، ليؤكد الوزراء العرب ودون أى لبس تمسّكهم بحل الدولتين وفق المرجعيات الدولية، وعلى مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة للدول العربية، وعلى حق تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة، على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية. ويتّضح من هذا القرار ومثيله قرار المحكمة الجنائية الدولية، أن مبدأ حق الفلسطينيين فى دولة على الأراضى المحتلة فى عام 1967 ليس مجالاً للمساومة، أو أنه محل نزاع.
هذا الزّخم بشأن الحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرّف تقابله تطورات الموقف الأمريكى، التى يمتزج فيها قدر من الانفراج وقدر من التراجع. ففى مجال الانفراج تأتى رغبة إدارة الرئيس بايدن فى الانفتاح والتواصل مع السلطة الفلسطينية وتقديم مساعدات للسلطة وللاجئين الفلسطينيين، وفتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية فى واشنطن، والأهم دعم حل الدولتين من حيث المبدأ. أما فى مجال التراجع، فيبرز موقف مجلس الشيوخ الأمريكى بغالبية 97 صوتاً ضد 3 أصوات فقط، والداعم لاعتبار القدس الموحّدة عاصمة لإسرائيل، وهو القرار الذى اتّخذه من قبل الرئيس المهزوم ترامب. وفى ضوء قرار الشيوخ هذا يصبح على الفلسطينيين والعرب عبء تصحيح الأمر، وهو لن يكون سهلاً، لاسيما أن الرئيس بايدن لم يطرح أى تصور بشأن تنشيط عملية مفاوضات فلسطينية - إسرائيلية.
هذه المتغيرات المتلاحقة تعيد تذكير الفلسطينيين والعرب أيضاً بأن من الصعوبة بمكان انتظار موقف أمريكى منصف على طول الخط. وأن الإفراط فى التفاؤل بقدوم الرئيس بايدن ليس فى مصلحة القضية الفلسطينية بأى شكل من الأشكال. فصُنع السياسة الخارجية الأمريكية مرهون بتوازنات داخلية مؤثرة، ويلعب فيها اليهود الأمريكيون دوراً كبيراً فى انتزاع المزيد من الدعم والمساندة المطلقة لإسرائيل، وبالقطع فإن الانقسام الفلسطينى لعب دوراً سلبياً للغاية طوال السنوات الماضية، ومنح قوى الضغط اليهودية والصهيونية فى الداخل الأمريكى فرصة ذهبية لاقتناص المزيد من الهدايا المجانية لصالح إسرائيل وعلى حساب الحقوق الفلسطينية التى يقرها القانون الدولى بقوة.
مجمل القول إن حوار القاهرة الفلسطينى يجب ألا يفشل بأى حال من الأحوال، وإن حقق بعض التقدم فى عدد من القضايا التنظيمية للانتخابات، فلتكن هناك جولة أخرى بعد فترة محدودة لحسم القضايا المتبقية، ومن ثم الدخول فى معترك العملية الانتخابية وفق منظومة لا تتيح لأحد التراجع أو التشكيك فى النتائج. وفى كل الأحوال فالمرونة مطلوبة من الجميع، والتنازلات من أجل استعادة القضية الفلسطينية لمكانتها التاريخية فرض وواجب على الجميع، ولا مجال لتعنّت أو لرغبة تعطيل إرادة الناس فى الاختيار الحر.