مات البدرى فرغلى.. مات البدرى فرغلى، ظللت أردد وبصوت مسموع تلك الجملة «البغيضة» حتى أصدق الخبر الصاعق.
اعتبرت نفسى محظوظاً لأننى كنت من أقرب المقربين من «البدرى» أو «الريس» كما كنت أناديه، معرفتى به ليست كمعرفة الملايين من المصريين، جمعتنا صداقة على مدى ثلاثين عاماً أو تزيد، أتاحت لى معرفة تفاصيل كثيرة عن أحد أشهر نواب البرلمان المصرى فى تاريخه، والرمز العمالى والنقابى، والقيادى البارز فى حزب التجمع وتيار اليسار بشكل عام.
وقصة تأسيس اتحاد أصحاب المعاشات وحدها تكشف عن أهم ما فى شخصية البدرى فرغلى، وهى قدرته على الانطلاق مجدداً من لحظة الانكسار.
فى عام 2005 تحالف أطراف من الحزب الوطنى مع جماعة الإخوان الإرهابية (والمحظورة آنذاك) لضمان نجاح مرشحيهما فى الانتخابات البرلمانية، وإسقاط «البدرى»، وبسلاح المال، والبلطجة، والتزوير، نجح المجهولان، وأسقطوا الأشهر والأجدر.. والأقوى.
لحظات بعد إعلان النتيجة، وقف «البدرى» وسط أبناء بورسعيد فى مقهى سمارة قائلاً: «لم أفقد سوى الكرسى الخشبى الذى كنت أجلس عليه فى البرلمان، وكنت وما زلت وسأظل نائبكم، وموعدنا يومياً هنا».
ومارس «البدرى» دوره لسنوات كنائب حقيقى عمن تمت سرقة أصواتهم لحساب غيره، وبعد عدة شهور خرج على المعاش ليفقد موقعه كرئيس للجنة النقابية بشركة بورسعيد لتداول الحاويات، عندها تصور البعض أن البدرى فرغلى انتهى سياسياً، بعد فقدانه موقعيه (البرلمانى والنقابى)، فاجأ الجميع بابتكاره خط إنتاج سياسى جديداً، وأسس اتحاد أصحاب المعاشات، أدرك «البدرى» بوعى شديد أن هذه الفئة بلا أى تنظيم يجمعهم، ويدافع عن مصالحهم، نظمهم فى كيان شرعى واضح.. قادهم لاسترداد أموالهم فى معركة استمرت لسنوات إلى أن وصل بصوتهم لرئيس الدولة، وأنصفهم الرئيس صراحة كما أنصف «البدرى» ضمنياً، وعوضه عن شقاء السنين.
قدم لنا المناضل «الموهوب» -كما كنت أراه- درساً فى كيفية المعارضة بشرف ومصداقية، دون المساس بأركان الدولة الوطنية، وحقق مكسباً سجله التاريخ باسمه لأصحاب المعاشات، بعد قرار الرئيس عبدالفتاح السيسى بتنفيذ حكم القضاء المتعلق بالعلاوات الخمس، ورد الأموال التى (استلفتها) الحكومة لأصحابها.
قدم «البدرى» لنا الدرس وهو يقود معركة أصحاب المعاشات، دون أن يتلقى تمويلاً من أحد سواء من الخارج أو الداخل، ودون تصريح أو مزايدة على الوطن فى أى وسيلة إعلامية أجنبية أو عربية، ولم ينحرف بالمعركة إلى مطالب أخرى لحساب أجندات خاصة سواء لحزب أو جماعة أو تيار سياسى.
المناضل الوطنى بحق حدد الهدف، والوسيلة، وكان له ما أراد.
البدرى فرغلى لم يعد مجرد حدوتة مصرية نحكيها لأولادنا وأحفادنا لمرة واحدة، سيرته ومسيرته النضالية حواديت وحواديت تملأ مجلدات، «البدرى» أصبح أيقونة الغلابة والشقيانين، كان يمكنه بعد أن تحول إلى نجم الموسم وكل موسم لعشرات السنين، أن يغادر طبقته الفقيرة، ليس إلى الطبقة الوسطى فحسب، ولكن إلى طبقة الأرستقراط، لكن شرفه السياسى وضميره الإنسانى لم يسمحا له بذلك، فضل البقاء مع من يستمد منهم قوته ووجوده.
فى زياراتى المتعددة له فى بورسعيد، أو المدينة الحرة كما كان يصفها -بالمعنى النضالى وليس الاقتصادى- كنت أستوقف أى تاكسى وأقول له البدرى فرغلى بس.. زى ما بتقول كده رمسيس أو التحرير فى القاهرة، كان السائق -أى سائق- يأخذنى لكل الأماكن المحتمل أن يوجد بها.. المقهى أو مقر حزب التجمع.. وإذا لم يجده يقودنى إلى بيته، من يملك كل هذا الحب غير البدرى فرغلى.
لا أستطيع أن أقول وداعاً يا أعز الناس.
وحتى نلتقى ستظل حياً فى وجدان كل من أحب تراب هذا الوطن كما كنت تعشقه.