هل يكره المصريون الأشجار؟.. بمعنى آخر: هل هناك أسباب تاريخية أدت بالشعب المصرى فى عمومه إلى ضعف الإحساس بأهمية الشجرة؟ المعروف أن العلم يرفض الأحكام القطعية دون اختبار، ومع ذلك فإن بعض الظواهر التى نعيشها لعقود وسنوات دون انقطاع، حتى أصبحت من العلم العام، تصلح كدليل نهائى على أننا -فى العموم- لا نحب الأشجار كما ينبغى، ولا نؤمن بقيمتها الجمالية والصحية والبيئية.. أو نؤمن بها نظرياً، ولكن شيئاً ما يمنعنا دائماً من إكثارها وتنميتها فى حياتنا، أو يدفعنا إلى إهمال ما وجدناه منها فى شوارعنا وحدائقنا حتى قاربت على الموت والاندثار.
إن تراثنا الفرعونى -كما نردّد دائماً- يعشق الشجرة ويقدسها، وأجدادنا الفراعنة كانوا حريصين على أن يذهبوا للعالم الآخر وليس فى أعناقهم ذنوب رهيبة تحرمهم من البعث، مثل «تلويث مياه النيل أو قطع شجرة»، فما الذى حدث حتى يصل بنا الأمر إلى ما نعرفه حالياً من عداء واضح للأشجار.. وحتى تتحول بيوتنا فى المدينة والريف إلى غابات أسمنتية تمتص الحرارة صيفاً والبرودة شتاء، وتتحول الحياة بداخلها إلى جحيم لا يطاق بسبب انعدام وجود الأشجار أمامها وحواليها؟! قد يظن البعض أن انعدام الإحساس بقيمة الأشجار هو أمر طارئ على المصريين، ولكن الحقيقة غير ذلك، فها هو شيخ المعماريين المصريين المهندس حسن فتحى يتوقف مذهولاً فى كتابه «عمارة الفقراء» أمام هذه الظاهرة التى انتبه إليها قبل عام 1930، عندما ساقته الظروف إلى زيارة «عزبة» كانت مملوكة لوالده فى منطقة ريفية قريبة من مدينة «طلخا» فى محافظة الدقهلية، وهو يؤكد أن رؤيته لأحوال الفلاحين «كانت خبرة مروعة.. فكل شىء فى هذه العزبة التعيسة يخضع للاقتصاديات.. المزروعات تمتد مباشرة حتى عتبات الأكواخ التى تتزاحم فى فناء العزبة القذر، لتترك أقصى مساحة ممكنة للمزروعات التى تدر المال.. وليس ثمة ظل.. فظل الأشجار يعوق نمو القطن، وما من شىء يشير إلى نظرة اعتبار للكائنات البشرية التى تنفق حياتها هناك»!.
والشهادة الموثقة على تعمد الإقطاع الزراعى حرمان الفلاحين من رحمة الظل، لا تقتصر على المهندس حسن فتحى، ولكننا نعثر عليها عند آخرين مثل المفكر الراحل سلامة موسى، الذى حرص فى كتابه «تربية سلامة موسى» على إجراء مقارنات بين الشعب المصرى والشعوب الأوروبية التى عايشها قبل عام 1915، وها هو يقول: «كان تأملى للمزارع الأوروبية يبعثنى على الاكتئاب كلما فكرت فى فلاحينا فى مصر، لأن المقارنة بين القرية الأوروبية والقرية المصرية، إنما هى مقارنة بين النعيم والجحيم، أو بين الجمال والقبح، أو بين الكرامة والمهانة». الشهادة الثالثة نعثر عليها فى مذكرات المفكر وأستاذ الفلسفة الكبير إبراهيم بيومى مدكور، التى نشرها تحت عنوان «مع الأيام»، وفيها يذكر أنه كان عائداً من بعثته العلمية فى فرنسا عام 1935، وصادفته على الباخرة سائحة فرنسية، وظل طيلة الرحلة يتحدث معها فى أمور كثيرة، من بينها جمال الريف الفرنسى.. ويقول: «وفجأة قالت محدثتى الفرنسية: أتوقع أن يكون ريفكم فى ظروفه المناخية والجغرافية أجمل من ريفنا.. ورددت عليها بأن اللمسات الحضارية لم تمتد بعد إلى الريف المصرى. ومتابعة لرحلتها من الإسكندرية إلى القاهرة ركبت معى فى قطار واحد، وألقت نظرة يميناً وشمالاً، وقالت جملة ما زلت أذكرها: أين هو الريف المصرى؟!».
أما من يريد العثور على عشرات الأدلة الأخرى على كراهية الإقطاع الزراعى والاحتلال الإنجليزى تحديداً للأشجار، والحرص الشديد على اجتثاثها من كل شبر فى ريف مصر حتى لا تعوق نمو المحاصيل الاقتصادية مثل القطن، فيكفيه أن يطالع كتاب «الفلاحون» للأب هنرى حبيب عيروط الذى نُشر بالفرنسية عام 1938 ونُشر بالعربية لأول مرة عام 1942، ثم توالت طبعاته وترجماته إلى الإنجليزية والروسية، وكان سبباً فى تنبيه العالم كله إلى وضاعة وتوحش الإقطاع والاحتلال اللذين حرصا أشد الحرص على حرمان الفلاحين من التعليم والصحة.. والأهم: «منع زراعة الأشجار كثيفة الظل أمام بيوتهم وحول أكواخهم الحقيرة حتى لا تؤثر على نمو أشجار القطن»!.
اللافت جداً فى هذه الشهادات، أنها جاءت بأقلام أربعة رواد مصريين ينتمون جميعاً إلى الطبقات الغنية، فوالد المهندس حسن فتحى كان يملك الكثير من العزب والأبعديات، ولكنه كان يكره زيارة أملاكه، لأنه لا يطيق قذارة الحياة فى هذه العزب، ووالد سلامة موسى توفى وهو يمتلك أكثر من مائة فدان، وإبراهيم مدكور كان ينتمى إلى أسرة تمتلك مئات الأفدنة فى أبوالنمرس بالجيزة، والأب هنرى عيروط كان رجل دين مرموقاً يعيش فوق حدود الستر، ويملك نفقات الحصول على الدكتوراه من باريس.
إنه الإقطاع إذن، ومن بعده الاحتلال، إنه التوحش الرأسمالى والاستعمار اللذان تسببا فى انقطاع التقديس الفرعونى للشجرة والإحساس بقيمتها عن عموم المصريين أو عن الغالبية العظمى من الشعب المصرى، الذى عاش لقرون طويلة تحت رحمة النهب والاستعباد والحرمان والمهانة، حتى جاءت ثورة 23 يوليو 1952 فحررته إلى حد كبير من هذا «الميراث الكافر».. ولكن الثورات الكبيرة مهما فعلت، فليس بإمكانها أبداً أن تحرر الوجدان الجمعى من ميراث رسخته قرون طويلة من التدمير، لقد وزّعت الثورة الأراضى على الفلاحين وأعادت لهم أملاكهم المغتصبة، ولكنها عجزت عن إعادة الإحساس بقدسية وقيمة الأشجار إلى المصريين. وأغلب الظن أن ملايين المواطنين الذين انتقلوا -عبر التعليم- من الريف إلى المدن والعاصمة، وشغلوا مناصب مرموقة وأصبحوا مسئولين عن إدارة أحوال البلاد والعباد، لم يتخلصوا حتى الآن من ميراث ضعف الإحساس بأهمية أو جدوى وجود الأشجار كثيفة الظل فى شوارعنا وأمام بيوتنا.
وقد يظن البعض أن وجود الأشجار فى بعض المناطق السكنية بالقاهرة وعواصم الأقاليم، ووجود حدائق كثيفة هنا أو هناك، هو دليل كافٍ على عدم صحة هذا التفسير، ولكن امتلاك فئة لا تزيد على 1٪ من مجموع الشعب المصرى لأكثر من 90٪ من الموارد الاقتصادية قبل ثورة 1952، هو الدليل الحاسم على أن هذه الرفاهية وهذه الحياة تحت رحمة الظل، كانت حكراً على هذه الفئة المسيطرة فقط، وكان هذا الاحتكار للظل والجمال هو السبب الرئيسى فى انعدام الإحساس بقيمة الشجرة لدى غالبية المواطنين.
أما وقد آن لهذا الميراث الوجدانى القبيح والبغيض أن يرحل تماماً.. وأن يفسح المجال لرحمة الظل وجمال الأشجار وقيمتها الاقتصادية والصحية فى حياتنا.. فينبغى أن نتوقف قليلاً لنعرف: أى الأشجار نزرع فى كل شوارعنا ومدننا وعلى امتداد طرقنا الحديثة وضفاف الترع والمصارف والرياحات، وفى قلب القرى التى تخضع الآن لأعظم مشروع تطوير وتنمية فى تاريخ مصر الحديث والمعاصر؟.. فإلى حديث مقبل.