ذات يوم، كان الألمانيان العظيمان بيتهوفن وجوته يتريَّضان فى حدائق مدينة «فيمار»، حتى وجدا أمامهما موكباً ملكيًّا. انتحى الأديبُ الشاعرُ صاحب «فاوست»، جانبَ الطريق، وهو يحنى رأسه احتراماً للسموِّ الملكىِّ، كما جرتِ التقاليدُ آنذاك. بينما لم يتوقف الموسيقارُ العظيم، الذى عرف كيف يخرج من صندوق العادة والتقليد، ولم ينحنِ، بل استمر فى طريقه غير مبال. توقف الأميرُ متأملاً ما جرى، ثم أحنى (هو) رأسه، قائلاً بصوت مسموع: «نعم، حقَّ علينا نحن، أن نحنى الرأَسَ لبيتهوفن».
ذاك هو الفارق الحضارىُّ بين ألمانيا القرن الـ18، وبين مصر القرن الـ21. احترامُ الحاكم للرمز. وإدراك حقيقة وجودية تقول إن الحياة كريمةٌ فى منح الأرض الملوكَ والساسة، لكنها حين تقرر منحنا الأدباءَ والفنانين والعباقرة، تكون شحيحةً. فلا تهبُ أمثال جوته وبيتهوفن وطه حسين وأرسطو وديكارت وبيكاسو ولامارتين وآينشتين، إلا بشقِّ الأنفس. ولا مجال هنا للكلام عن الفارق الحضارى (المعكوس) بين مصر وألمانيا فى القرن الرابع قبل الميلاد، كيلا تحزنوا معى! لأن وقتها لم يكن ثمة ما يُسمى «ألمانيا»، بينما كانت مصرُ تخطُّ سطور التاريخ الأولى فى الحضارة الإنسانية باختراع الكتابة والفن والنحت والموسيقى والطب والهندسة.
فى ذكرى نجيب محفوظ، 30 أغسطس، كتب الطبيب والكاتبُ المستنير «خالد منتصر» مقالاً يقطر ألماً عنوانه «انتصرَ قطب، وانهزمَ محفوظ». يحلل فيه الملفَّ الثرىَّ الذى غزلت خيوطَه جريدةُ «الوطن»، حول نجيب محفوظ، وسيد قطب، ليَخلُصَ فى الأخير إلى أن المجتمع تخندق فأضحى «قُطبىَّ» المزاج بدلَ أن يرتقى ويعلو ليغدو «محفوظىَّ» الهوى. سيد قطب الذى ترك عالم النقد الأدبى الرحب ليلجَ نفقاً مظلماً يعتنقُ التكفير ومخاصمة المجتمع، فى مقابل نجيب محفوظ الروائى الذى انحنى له العالمُ احتراماً، فى حين سمحت مصرُ، أمُّه، لبعض بنيها، ممّن على عقولهم أقفالُها، بأن يهينوا اسمَه وتراثه الرفيع.
أشاركُ صديقى مرارتَه. لكننى أعود فأقول إن التاريخَ ليس هو اللحظة التى نحياها اليوم. إنما الزمانُ أمواجٌ لها نقاطُ ذُرى شاهقاتٌ، ونقاطُ حضيضٍ سافلاتٌ، نعيش اليومَ إحداها، للأسف. ومِصفاةُ التاريخُ قاسيةٌ حاسمةٌ لا تجامل؛ تُسقط الحَصى البليد، وتُبقى الدرَّ الثمين. وتعال عدِّد معى بعض اللآلئ التى حُفرت فى ذواكرنا، والحصوات التى أسقطها التاريخُ من حساباته.
لا نعرفُ اسمَ الأمير الذى انحنى له جوته، ونعرف بيتهوفن وجوته. لا أحدَ يذكر اسمَ صالب الحلاج ولا قاتل السهروردى، والمتنبى، وسميرة موسى، وفرج فودة، وهيباثيا، وعمر المختار (الذى قال: عمرى أطول من عمر شانقى). ولا نغفلُ حارقى كتب ابن رشد، ولا مُكفِّرى جاليليو، ولا كاسر أنف أبى الهول، ولا الذى قاضى طه حسين، فيما حفظ التاريخُ تلك الرموز. ولن يذكر التاريخُ ذاك الذى كفَّر نصر حامد أبوزيد، ولا الذين أهانوا تراث نجيب محفوظ.
ستعبرُ مصرُ هذه اللحظةَ السوداء الكابية، وسوف يسامحنا نجيب محفوظ على جهلنا به. وينام ملءَ جفونه، عن شواردها.