فى المقالين السابقين تناولتُ الأهمية القصوى -بيئياً وصحياً واقتصادياً- لزراعة الأشجار بكثافة شديدة فى كل مساحة ممكنة: فى المدن والقرى وعلى ضفاف النيل والترع والمصارف والرياحات، وداخل المناطق السكنية القديمة والتجمعات العمرانية الجديدة. وتوقفتُ طويلاً أمام المبادرات التى انتشرت مؤخراً حول زراعة أشجار الفاكهة داخل المدن، وانتهيتُ إلى أن زراعة هذه الأشجار تمثل جريمة بيئية لا تقل خطراً عن الجريمة التى ارتكبها مسئولو المحليات بنشر أشجار الفيكس وغيرها من الأشجار الضارة فى كل شوارع المدن.. ثم وصلوا بها إلى قلب غيطان الدلتا، فتسبّبت فى نشر الآفات والعوائل الحشرية، التى دمرت جانباً كبيراً من المحاصيل الغذائية، دون أن تُقدم لنا أدنى فائدة اقتصادية، لأن خشبها لا يصلح حتى لإنتاج الفحم!
والآن، أتوجه بهذا المقال إلى الرئيس عبدالفتاح السيسى، ثم أتوجه به إلى رئيس الوزراء، وإلى كل المسئولين الذين يضطلعون الآن بالإشراف المباشر على تنفيذ المبادرات والمشروعات القومية الرئاسية التى غطت كل شبر من أرض الوطن.. وأخص بالذكر هنا رئيس الوزراء والسادة وزراء الرى والزراعة والبيئة والنقل والإسكان والتنمية المحلية.. وأضيف إليهم اللواء إيهاب الفار رئيس الهيئة الهندسية بالقوات المسلحة واللواء أمير سيد أحمد مستشار رئيس الجمهورية للتخطيط العمرانى، وغيرهما من المسئولين الكبار الذين بإمكان كل منهم أن يسهم بدور فاعل فى إنقاذ البيئة المصرية من التدهور، وفى تحسين جودة الحياة، وفى خفض الانبعاثات الغازية الملوثة للهواء والممرضة للبشر، وفى التصدى للآثار المدمرة لتغير المناخ.. وكلها أمور من السهل -بل من المؤكد- مواجهتها بحسم، إذا بدأنا فوراً فى زراعة الملايين من الأشجار الخشبية عالية القيمة بيئياً وصحياً وجمالياً واقتصادياً أيضاً.
نعم، الأشجار الخشبية هى وحدها التى تصلح للزراعة فى كل مكان بمصر.. ولدينا منها أشجار مبهرة فى جمالها وقيمتها الاقتصادية المذهلة مثل شجر الماهوجنى وشجر البلوط وشجر التامريكس «أو الأثل»، وهذه الأنواع الثلاثة من الأشجار تتميز بالجودة الفائقة لأخشابها، وكل باحث فى علوم الغابات والأشجار الخشبية وكل تاجر أخشاب، يعرف جيداً أن الماهوجنى والبلوط من أغلى أنواع الأخشاب عالمياً، وأن التامريكس المصرى «الذى قارب على الانقراض» تتميز أخشابه بالصلابة الشديدة وتحمل الظروف المناخية شديدة التقلب، ومن المدهش حقاً، أو مما يدعو للحسرة، أن المملكة العربية السعودية طلبت مؤخراً من أحد علمائنا المرموقين كميات ضخمة من شجر التامريكس وبأى أسعار، وبعد بحث مجهد تبيّن أن الغالبية العظمى من مشاتل مصر قد انصرفت عن إكثار هذه الشجرة الجميلة، وتفرّغت لإنتاج «الفيكس» القبيح.
ثم لدينا تلك الشجرة المعجزة «المورينجا»، التى كانت موجودة فى مصر ثم انقرضت، ويعود الفضل للعالم المصرى الكبير الدكتور إسماعيل عبدالجليل فى الحصول على بذورها من بريطانيا، وإعادة زراعتها وإكثارها فى مصر أثناء رئاسته لمعهد بحوث الصحراء.. والمثير فى هذه الشجرة أن الولايات المتحدة الأمريكية استخدمت بودرة بذورها فى تنقية مياه الشرب، بدلاً من «الشبة»، أو المواد الكيميائية الأخرى، وأن إيطاليا تستخدم مسحوق أوراق المورينجا منذ سنوات فى صناعة الخبز، لأن ملعقة صغيرة منه تحتوى على فيتامين C ومضادات أكسدة تفوق أضعاف ما تحتويه الحمضيات، كما أن محتوى الحديد فى المورينجا يفوق 25 مرة محتواه فى السبانخ.. بالإضافة إلى فوائد أخرى مدهشة، ولهذه الأسباب بذل الدكتور إسماعيل جهداً كبيراً لإقناع المسئولين بزراعة هذه الشجرة بكثافة على الترع والمصارف فى الريف المصرى، ورغم أن مركز بحوث الصحراء كان يتيح شتلة المورينجا بخمسين قرشاً فقط لمن يريدها، فإن المسئولين عن التشجير فى المحليات اختاروا نشر «الفيكس» فى حقولنا، لأن سعر الشتلة منه كانت آنذاك بعشرة جنيهات!!
هل هناك أنواع أخرى من الأشجار تصلح للزراعة فى مصر؟.. نعم، هناك أنواع كثيرة، ولكن قرار اختيارها، وقرار توزيع زراعتها فى أقاليم مصر وفى مناطقها الجغرافية المختلفة لا ينبغى أن يظل رهن اجتهادات الهواة أو المثاليين أو غير المتخصصين، فلدينا معاهد بحوث عملاقة، ولدينا مركز الجينات النباتية فى الشيخ زويد، الذى اكتشف أشجاراً مصرية شديدة الأهمية على كل المستويات، ولدينا معهد بحوث الغابات والأشجار الخشبية فى مركز البحوث الزراعية، ولدينا مشاتل خاصة بدأت فى إنتاج الأشجار عالية القيمة اقتصادياً لسد فجوة الأخشاب التى نعانى منها منذ عقود طويلة، وقد اتضح بعد دراسات معمّقة والاطلاع على تجارب عالمية، أن زراعة الأشجار الخشبية، وتدية الجذور، وأفقية المجموع الخضرى، قادرة على امتصاص أطنان ضخمة من الانبعاثات الغازية، خصوصاً الكربون الذى تهضمه، ويدخل فى تكوين الأخشاب، وأنها تطلق أطناناً أخرى من الأكسجين النقى، كما أن ظل هذه الأشجار يخفض الحرارة صيفاً بنسبة 12 درجة مئوية، ويصد الرياح الباردة فى الشتاء عن البيوت، وبالتالى يوفر الطاقة المهدرة فى التبريد والتدفئة.
وبالإضافة إلى ذلك، فقد ثبت علمياً لكل مهندسى الطرق أن زراعة الأشجار العالية كثيفة الظل حول الطرق، يزيد عمرها الافتراضى إلى الضعف ويحافظ على سلامتها ويصونها من التشقّق والتكوم وتآكل الحواف والتحدب والتقعر، التى تعانى منها عادة بعض طرقنا بعد سنوات قليلة من إنشائها، وتعانى منها دائماً طرقنا القديمة فى الدلتا والوادى.
إن أهمية زراعة الأشجار الخشبية عالية القيمة بيئياً واقتصادياً، لم تعد أمراً يخص علماء المناخ والمشغولين بالصدمات المناخية الكارثية فقط، ولكنها أصبحت من أهم المواصفات فى التخطيط العمرانى للمدن والمبانى والطرق، ولم يعد فى العالم المتقدم مهندس معمارى أو مهندس طرق بإمكانه أن يتجاهل أو يتعامل بإهمال مع الشجر، خصوصاً بعد أن زاد الوعى العالمى بدور الشجرة فى صيانة الحياة ذاتها من التدهور، حتى إن «وانجارى ماثاى» عالمة الأحياء الكينية التى حصلت على جائزة نوبل للسلام عام 2004، وصفت الأشجار بأنها أهم لاستمرار الحياة من البشر أنفسهم، وقالت حرفياً فى كتابها الملهم «أفريقيا والتحدى»: «إذا اختفى البشر جميعاً من الأرض فسوف تستمر الحياة بسبب الأشجار.. ولكن إذا اختفت الأشجار فجأة فسوف يموت البشر والحيوانات فوراً».
هل ننتبه إذن إلى خطأ بناء مدن وجامعات وشق طرق وتطهير النيل وفروعه وتطهير الترع والمصارف وتطوير القرى.. وفريضة زراعة الأشجار الخشبية بكثافة غائبة عن بال الجميع؟!.. ثم هل ننتبه إلى أن مقولة «تصحر الجمال»، التى أطلقها قبل شهور الدكتور إسماعيل عبدالجليل.. لم تعد تنطبق فقط على تقلص مشاهد الأشجار المورقة والمزهرة.. ولكنها امتدت أيضاً إلى تصحر الهواء من الأكسجين.. وتصحر البيوت والشوارع من رحمة الظل؟!. إن الأمر كله فى حاجة شديدة إلى تدخل الرئيس شخصياً، فهو وحده القادر الآن على إطلاق مشروع قومى عملاق يلزم كل الجهات التنفيذية بزراعة الأشجار الخشبية عالية القيمة فى كل شبر يخضع للتطوير أو التخطيط.