تنفس كثيرون الصعداء بعد وصول جو بايدن إلى منصب رئيس الولايات المتحدة على حساب سلفه دونالد ترامب، بل اعتقد بعض هؤلاء أن بإمكان الرئيس الجديد معالجة السياسات الخارجية للرئيس المنصرف بمجرد اتخاذ القرارات الصائبة والناجعة فى الملفات الصعبة والشائكة.
لقد حدث هذا بالفعل فى عدد من الملفات المهمة؛ مثل العودة إلى اتفاقية المناخ وغيرها، لكن فى ملفات أخرى، خاصة تلك التى تتّصل بالعلاقات الدولية فإن الأفخاخ التى تركها «ترامب» لا تُعد ولا تُحصى، وربما يتحول بعضها ألغاماً تنفجر فى وجه خلفه.
من بين تلك الأفخاخ ما يتصل بملف «حقوق الإنسان والحريات»؛ إذ ستمثل العودة عن ممارسات «ترامب» فى هذا الصدد اتساقاً ظاهراً مع ما تعلنه الإدارة الديمقراطية من تبنٍّ لـ«القيم الأمريكية» وحرص واضح عليها، لكن فى التفاصيل، فإن فتح هذه الملفات سيؤثر فى علاقات واشنطن بعدد من البلدان المهمة وسيجلب طوفاناً من المصاعب.
ومن بينها أيضاً ما يختص بالعلاقات مع إسرائيل؛ إذ ستمثل أى مراجعة لقرارات حادة ومنحازة وغير مدروسة فى ملفات مثل القدس والاستيطان وحل الدولتين وغيرها، تعريضاً بالعلاقات الأمريكية - الإسرائيلية واستفزازاً للوبى أصدقاء إسرائيل المؤثرين والفاعلين فى واشنطن.
ويأتى بين هذه الملفات أيضاً ملف الاتفاق النووى الإيرانى، الذى يسعى «بايدن» لنقض تركة «ترامب» إزاءه، لكنه فى سعيه هذا سيكون كمن هرب من الرمضاء إلى النار؛ إذ سيتحتم عليه الاصطدام بالدهاء الإيرانى، الذى بدا أنه استفاد من الاتفاق النووى أولاً، ثم استفاد من إلغاء «ترامب» له ثانياً، وها هو يستفيد ثالثاً من محاولة «بايدن» العودة إليه.
يقتضى الإنصاف القول إن الإيرانيين يتقنون لعبة السياسة، وإنهم يحولون كل إشكال أو مغرم إلى فرصة للكسب وتحقيق التقدّم، وفى هذا الصدد، يحلو للكثيرين من نُقاد السياسات الإيرانية القول إن قادة الجمهورية الإسلامية يمضون ساعات الليل الأولى فى قراءة كتاب «الأمير» للمفكر الإيطالى ميكافيللى، ثم يضعون الكتاب تحت وسائدهم، قبل أن يستيقظوا فى الصباح، ليُنفّذوا ما فيه من أفكار براجماتية.
وقد حاول عبدالحليم خدام النائب الأسبق للرئيس السورى أن يصف طبيعة التحالف الذى عقدته بلاده مع طهران على مدى عدة عقود بقوله: «لم نكن نعرف ماذا يريد الإيرانيون حقيقة إلا بعد أن تقع الأحداث».
يبدو أن «خدام» على حق فعلاً؛ فقد تصور الأوروبيون مثلاً أن وصول «بايدن» إلى الحكم، وعودته عن قرار «ترامب» بإلغاء الاتفاق النووى مع إيران، كما يفضّلون، سيكون أمراً سهلاً ومثمراً؛ إذ سيهرع الإيرانيون فوراً إلى تلبية قرار العودة، ومن ثم تنتظم العلاقات ويتم تفعيل الاتفاق مجدداً من دون عوائق ولا تكاليف.
لكن ما ظهر لاحقاً كان غير ذلك بطبيعة الحال، إذ عمد الإيرانيون إلى استثمار الموقف لتعزيز مكاسبهم، وهو الأمر الذى أدخل الاتفاق فى نفق معتم جديد.
فقد عادت إيران إلى المراوغة من جديد، وفى الأسبوع الماضى أعلنت تقليص تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة، وأنهت إجراءات تفتيش إضافية كانت مطبّقة بموجب الاتفاق النووى الذى أبرمته فى 2015، فى أحدث خطوة للرد على إعادة فرض عقوبات أمريكية عليها بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق فى 2018.
أرادت إيران من هذا تحقيق مكاسب جديدة، عبر تنصّلها من الالتزامات التى فُرضت عليها فى أعقاب توقيع الاتفاق النووى، بداعى أن الجانب الأمريكى ألغى الاتفاق، وهى بذلك لا تضع العصا فى دولاب استعادة الاتفاق فقط، ولكنها أيضاً تفرض أوضاعاً جديدة على القوى العالمية الست المنخرطة معها فى الاتفاق الملغى إن هى أرادت استعادة الفاعلية للاتفاق.
عشية توقيع الاتفاق النووى بين إيران ومجموعة الدول الست، لم يكن أمام الولايات المتحدة سوى خيارين للتعامل مع الإشكال الإيرانى؛ أولهما خيار الحرب، وثانيهما خيار عدم الحرب.
لأسباب كثيرة ليس هذا مجال ذكرها، لم تكن الولايات المتحدة، فى عهد أوباما، راغبة فى حسم الملف الإيرانى عبر الحرب، غداة حربين فى أفغانستان والعراق، سببتا مشكلات هيكلية لواشنطن، وهددت آثارهما السلم والأمن العالميين.
واستناداً إلى ذلك، اتبعت واشنطن سيناريو تقبل من خلاله هى وحلفاؤها بحل يضع قيوداً على تطوير السلاح النووى الإيرانى، مقابل إعطاء امتيازات لطهران، على أن يكون ذلك وفق اتفاق، يُؤمّن فترة زمنية من عشر سنوات إلى خمس عشرة سنة، يمكن خلالها بناء «آليات احتواء»، مشابهة لتلك التى سبق أن بنتها الولايات المتحدة مع دول نووية من خارج المعسكر الغربى.
لقد وجدت واشنطن وحلفاؤها الخمس فى مجموعة «5+1»، أن تطوير سياسة «ردع واحتواء» للجمهورية الإسلامية يمكن أن يكون حلاً مقبولاً، سواء فى فترة ما قبل تطوير السلاح النووى، أو بعد تطويره.
ارتكزت واشنطن ومعها حلفاؤها الأوروبيون فى هذا الإجراء إلى سياسة الإرجاء والضبط من دون إنهاء الرغبة الإيرانية فى امتلاك سلاح نووى؛ وهو ما بدا حينها سياسة محافظة تراعى المحدّدات والقيود التى تفرضها البيئة السياسية العالمية.
سارت إيران فى هذا الطريق، لأنه وإن أظهرها فى صورة المساوم على حقوقها النووية، فإنه لم يُنهِ آمالها فى امتلاك السلاح النووى، بينما جنّبها غرم العقوبات والاستهداف لفترة، ولم يغل يدها عن التوسّع الإقليمى فى آن.
وبالطبع فإن لهذا السيناريو أثماناً فادحة؛ منها أن المنطقة ستُجر إلى سباق تسلح نووى، فى حال وصلت طهران إلى غايتها، وهو أمر سيُنشئ أوضاعاً متوترة وقابلة للانفجار بأكثر من أى وقت مضى؛ ومنها أيضاً أن إيران ستستفيد من الاتفاق فى تعزيز سياساتها التوسّعية والرامية إلى فرض نفوذها على عدد من بلدان المنطقة وتقويض سيادتها.
والأخطر من ذلك أن اقتراب إيران من تطوير سلاح نووى يمكن أن يُغرى إسرائيل بشن ضربات عسكرية ضدها، وهو أمر ستكون له عواقب وخيمة على الأمن والسلم العالميين والإقليميين.
ومع ذلك، فإن الأمريكيين والأوروبيين ما زالوا حريصين على العودة للاتفاق النووى، ورغم أن هذا يُعد مكسباً إيرانياً خالصاً؛ فإن طهران لن تتجاوب مع جهود تفعيل الاتفاق إلا بعد حصد مكاسب جديدة.