محمد البرغوثى
خلال شهر فبراير الماضى، وصلت بلاغات «النصب» التى تقدم بها مواطنون إلى ذروة غير مسبوقة، ولا بد أن جهاز الأمن العام قد انتبه إلى تنامى ظاهرة حصول بعض المغامرين على أموال طائلة من آلاف المواطنين بغرض توظيفها فى تجارة مربحة، وقيامهم فعلاً بصرف أرباح مغرية لعدة شهور قبل اختفائهم. والمدهش فى هذه الظاهرة أنها تتم بطرق متكررة دون أى تجديد، ومع ذلك يقع عشرات الآلاف من المواطنين فى شِراكها، وتضيع أموالهم ويتبخر شقاء أعمارهم فى غمضة عين، وكل هؤلاء الضحايا تقريباً يقضون ما تبقى لهم من عمر فى البحث المضنى عن النصاب الذى سرق أموالهم، وفى التردد على أقسام الشرطة والنيابات العامة، وفى دفع مزيد من الأموال لمحامين يتابعون قضاياهم المنظورة أمام المحاكم.. وكل الدلائل تشير إلى أن هذه الجهود لا طائل من ورائها.
وقبل حوالى 6 شهور، طلبنى أحد أقاربى الذى يملك سيارة نقل مبرد يعمل بها بين مصر والأردن والسعودية، وأبلغنى أنه تعرض لعملية نصب ضاع معها شقاء العمر، فقد دفع 2 مليون جنيه لشخص من المنصورة يعمل فى تجارة الملابس المستوردة من الصين، واتفق الطرفان على أن تكون الأرباح مناصفة، والخسائر - لا قدر الله - مناصفة أيضاً، وفهمت من قريبى أنه استراح جداً إلى هذه الصيغة لأنها لا تخالف شرع الله الذى حَرَّم «الربا»، وعلى امتداد 5 سنوات ظل يتقاضى «ربحاً حلالاً» كل 3 شهور، وهو الأمر الذى دفعه إلى تشجيع آخرين على استثمار أموالهم مع هذا الشخص، حتى بلغ ما تقاضاه أكثر من 30 مليون جنيه، وفجأة جاء اليوم الذى أبلغهم فيه «التاجر الأمين» أن الأمور تعثرت قليلاً، وأنه سيؤجل صرف الأرباح أسبوعين فقط عن الموعد المقرر، وقبل أن ينتهى الأسبوعان اختفى تماماً، وبعد أسابيع من البحث عنه تبين أنه سافر إلى الإمارات.
لفترة طويلة ظل قريبى يتردد أسبوعياً على مبنى الأموال العامة فى المنصورة لمتابعة البلاغات التى حررها هو وأقرانه من الضحايا، وذات صباح طلبنى ليخبرنى بآخر طرائف هذه الظاهرة التى انتشرت فى كل مراكز المحروسة: «شوف يا سيدى.. أنا واقف قدام الأموال العامة فى وسط ناس اتنصب عليهم من واحد تانى.. أخد منهم حوالى 100 مليون جنيه.. وسافر على جزر المالديف.. وبيكلم ضحاياه فيديو وبيسخر منهم.. وبيقول لهم يا شوية حمير بتعملوا إيه فى الأموال العامة؟.. أنا فى المالديف يا بقر.. أموال عامة إيه اللى انتم فاكرين إنها هتوصل لى؟.. أنا قلت لكم من الأول القضايا مش هتنفعكم.. وقلت لكم بطّلوا عبط وشوشرة.. وادونى فرصة كام شهر.. انتم مشيتم ورا المحامين، والنتيجة قدامكم: أنا فى المالديف وانتم قاعدين قُدام الأموال العامة»!!
المثير فعلاً هو نوعية ضحايا هذه الظاهرة، وقد اتضح لى - بعد قليل من التقصى والمراجعة - أنهم ينتمون إلى كل شرائح وفئات المجتمع، فبينهم أطباء وصيادلة ومدرسون ومحامون وضباط سابقون وحرفيون، وبينهم فقراء باعوا بيوتهم و«مصاغ» زوجات أبنائهم وبناتهم ليضمنوا دخلاً شهرياً، وبينهم موظفون كبار تقاضوا مكافآت نهاية خدمة كبيرة وضعوها كاملة بين أيدى هؤلاء «النصابين»، وكل منهم كان على يقين بأن الشخص الذى «يوظف» أمواله لا يمكن أن يكون نصاباً وأن هناك أدلة كثيرة على أمانته، من بينها انتظامه لعدة شهور فى دفع أرباح، وأن الأرباح ليست ثابتة ولكنها تزيد وتنقص، مما يشير إلى أنه يطبق شرع الله فى التجارة، وأن أموال تجارته لا يدخلها «الربا»!
وهناك عوامل مشتركة أخرى فى هذه الظاهرة، من بينها - بل لعل أهمها - أن هؤلاء النصابين يستخدمون «مناديب»، بعضهم خطباء مساجد فى القرى، يشجعون الناس على استثمار أموالهم معهم، بحجة أن إيداع الأموال فى البنوك حرام شرعاً، كما أنهم يستخدمون «اليوتيوب» ووسائل التواصل الاجتماعى فى الدعاية لأنفسهم بطرق مغرية، كأن يستأجر أحدهم أشخاصاً يسجلون فيديوهات يتحدثون فيها عن «النعمة» التى هبطت عليهم، وعن «البركة» التى حلت فى أموالهم بعد إيداعها مع هذا الشخص أو ذاك.. وقد ظهر الأثر المدمر لهذه الدعاية فى واقعة «مستر حسين» - مستريح المنيا - الذى جمع 1.5 مليار جنيه من مواطنى عدة قرى، فيهم من باع بيته ومن باع أرضه، ومن اقترض من البنوك، ومن أودع شقاء عمره فى الغربة لديه، وانتهى بهم الأمر إلى حسرات وأمراض وعشرات حالات الطلاق بين الأزواج!
اللافت أيضاً فى كل هذه القضايا، هو أن أصحابها يتظاهرون بالعمل فى مجالات عالية الربحية، فمستريح الغربية الذى جمع 400 مليون جنيه قبل اختفائه كان يعمل فى تجارة الأجهزة الكهربائية المستوردة من الصين، ومستريح الدقهلية الذى هرب إلى المالديف كان يتاجر فى الموتوسيكلات الصينية، ومستريح المنوفية الذى انتحر قبل أسبوع كان يتاجر فى السيراميك، و«مستريحة» التجمع كانت تزعم أنها شريكة «لناس كبار» يحصلون على أعمال مقاولات ضخمة من الدولة، ويحققون أرباحاً طائلة، و«مستريح» المنوفية الآخر كان يعمل فى تجارة الحديد، يشتريه من المصانع التى كسدت تجارتها بسبب وقف البناء فى كل محافظات مصر، ويبيعه لشركات المقاولات التى تعمل مع الدولة بهامش ربح كبير، و«مستريح» كفر الشيخ الذى جمع 250 مليون جنيه كان يعمل فى تجارة الأراضى. والمحصلة أن الملمح العام فى كل هذه الوقائع هو أنهم يعملون فقط فى التجارة، شراء سلع وبيعها وتحقيق فائض مالى ضخم.. ولا يوجد بينهم إطلاقاً من زعم أنه يستثمر أموال الضحايا فى مشروع إنتاجى.. وهو ما يشير إلى الإيمان المطلق للجميع فى هذا البلد، بأن تسعة أعشار الرزق - أو الربح - فى التجارة، وأن المشروعات الإنتاجية مآلها الخسارة فقط!
ومن أهم الملامح المشتركة بين كل النصابين أنهم يستخدمون «مناديب» تظهر عليهم آثار النعمة بعد فترة قصيرة، يدخلون القرى ويخرجون منها بسيارات جديدة وملابس فاخرة، وهم دائماً يروجون لولىّ نعمتهم بطرق ناعمة لا تثير الشك، وبعد اختفاء النصاب الذى لا يعرفه معظم الضحايا، تبدأ رحلة الاشتباك مع «المناديب» الذين يدّعون عادة أنهم تعرضوا أيضاً للنصب، وأنهم مثل كل الضحايا خسروا أموالاً طائلة!
قبل حوالى عشرين عاماً، كان التقرير السنوى الذى يصدره الأمن العام عن كل الجرائم والحوادث التى يشهدها المجتمع، يصل إلى كل الجهات المعنية - ومن بينها الصحف وأقسام الاجتماع فى كليات الآداب - ورغم حجب التقرير ومنعه من التداول وكأنه من أسرار الأمن القومى، فإن مواقع الصحف وصفحات الفيس بوك تشير إلى تفشى ظاهرة لجوء ملايين المواطنين إلى استثمار أموالهم بعيداً عن رقابة الدولة، وبعيداً عن البنوك أو البورصة، ولعل غياب الأرقام الموثقة عن هذه الظاهرة هو الذى منع علماء الاجتماع عن إخضاعها للتحليل العلمى للوقوف أولاً على حجمها، وثانياً على أسبابها، وثالثاً على تداعياتها الخطيرة، وفى غياب التناول العلمى لهذه الظواهر تقدم كثيرون للإفتاء فى هذا الشأن الخطير، وقد انقسمت الفتاوى إلى قسمين لا ثالث لهما، الأول اكتفى بأن سبب هذه الظاهرة هو طمع الضحايا الذين يستأهلون ما جرى لهم، والثانى ذهب إلى أن كثرة وجود «المستريحين» تشير إلى أن المواطنين لديهم الكثير من الأموال ولكنهم يَدَّعُون الفقر عندما تطالبهم الدولة بدفع مستحقاتها.. والمؤكد أن هذين التفسيرين لا قيمة لهما على الإطلاق فى فحص أسباب وتداعيات هذه الظاهرة، وخصوصاً التفسير الأخير الذى يتعامى عن أن الغالبية العظمى من الضحايا هم من أشد الناس فقراً، وأنهم باعوا بيوتهم وسكنوا بالإيجار لكى يضمنوا دخلاً شهرياً فى زمن لم يعثروا فيه على عمل يوفر لهم دخلاً مضموناً ومستقراً.
والمؤكد أن انتشار هذه الظاهرة يشير إلى خلل رهيب ينتظر من يكشف عنه، ولعل شيوع الاعتقاد بربوية إيداع الأموال فى البنوك، ثم تناقص الفوائد على الإيداع، وانعدام ثقة المواطنين فى التعاونيات وفى البورصة معاً، يصلح مدخلاً معقولاً للوقوف على معظم أسباب وتداعيات هذه الظاهرة المخيفة.