الحكمة فى العقوبة جوهرها تهذيب السلوك البشرى، وإشعار المخطئ بخطئه وليس طحنه أو ضغطه أو إذلاله.
أسلوب الطحن والضغط والإذلال عند معاقبة شخص على خطأ معين لا يضمن لنا بحال أن يتخلّى مستقبلاً عن السلوك المرفوض، وليس من المستبعد أن يؤدى إلى نوع من العناد والتشبث من جانبه بما عوقب عليه.
عندما تعاقب طفلك على سبيل المثال، فأنت تستهدف فقط إشعاره بالخطأ الذى وقع فيه، وقد يكون العقاب بنظرة غاضبة، أو كلمة مؤنّبة، أو باعتزاله، وتكتفى بذلك. من يقدم على معاقبة طفله بغير هذه الأدوات يفتقر إلى الحس التربوى أو الإصلاحى.
وضع القواعد ومعاقبة من يخرج عليها جزء من فلسفة أى إصلاح.
والشرط الأساسى لنجاح أى فرد أو جهة فى تفعيل هذه القواعد وإصلاح الأوضاع غير المريحة أو غير المقبولة يتمثّل بالعدالة فى تطبيقها.
فى التجربة الإصلاحية التى عاشها نبى الله شعيب، والتى حدثتك عنها ذات مرة تجد أنه كان يخاطب قومه، قائلاً: «وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ».
فليس من المعقول أن يأتى القائم على تطبيق القانون السلوك الخاطئ ولا يعاقَب عليه، فى حين يعاقَب بكل الحماس غيره من المخطئين.. القدوة لا بد أن تكون حاضرة عند تطبيق العقوبات القانونية، بحيث تطبق بعدالة على الجميع، ودون استثناءات.
دخول الاستثناء يفقد أى قاعدة قانونية هادفة إلى ترشيد وتهذيب السلوك جدواها فى الواقع.. فالعدالة لا تعرف الكيل بمكيالين.
شرط آخر لا بد أن يسلكه من يتبنون فكرة «الإصلاح عبر العقوبات القانونية» تتمثّل فى منح الأفراد انطباعاً بأن هدفهم الإصلاح وحماية الأفراد وليس غيره.
لعلك تذكر على سبيل المثال أن الحكومة قرّرت مع ارتفاع أعداد الإصابة بكورونا فرض غرامة على من لا يرتدى الكمامة قدرها 4 آلاف جنيه. وقتها تساءل الناس: هل الهدف من العقوبة حماية صحة الناس أم غيرها؟! واستقامت الأمور عندما تم خفض هذه الغرامة إلى 50 جنيهاً.
فأصل التزام الناس شعور يمنحه لهم من يضعون أو ينفّذون القانون بأن هدفهم حماية للناس.. ليس بمقدور أى مصلح أن يقنع الناس بفكرته إلا إذا أحسوا أنه يدعو إلى ما يدعو إليه خوفاً عليهم، وليس رغبة فى طحنهم أو تجريسهم أو تسميم حياتهم.
ولعلك تذكر الآية الكريمة من سورة غافر، التى تنقل حديث مؤمن آل فرعون إلى قومه وهو يعبر عن خوفه عليهم بقوله: «وَقَالَ الَّذِى آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ».
الدعاوى الإصلاحية التى لا تتفهم أن العقوبة هدفها مجرد الإشعار بالخطأ، أو لا تراعى شرط العدالة فى التطبيق، أو لا تعتمد على مبدأ «معقولية العقاب» هى دعاوى تضر أكثر مما تنفع، وتؤدى إلى مزيد من الإرباك للواقع الذى يعانى أصلاً من الارتباك.
فى ضوء هذه المعايير بإمكاننا ننظر ونقيم فائض القوانين وسيل العقوبات التى أصبحنا نسمع عنها كل يوم، ونحدّد هل ستؤدى فعلاً إلى إصلاح الواقع وتهذيب السلوك البشرى أم ستضيف إليه المزيد من الأزمات؟