حادثة مثيرة شهدتها مدينة «الصف»، فبعد 10 سنوات من ممارسة مهنة الطب (تخصص نساء وتوليد) اكتشف أهل الصف أن الطبيب الشهير الذي يتعاملون معه ليس طبيباً، بل مسجل خطر.
كشفت التحريات أن الطبيب المزيف تمتع بسمعة حسنة بين الأهالي، وكان يتقاضى 50 جنيهاً في الكشف الواحد، و700 جنيه في الولادة الطبيعية، و1400 جنيه في الولادة القيصرية.
لا أجدني بحاجة إلى تذكيرك بمجموعة من الحوادث الشبيهة التي أمطرتنا بها وسائل الإعلام خلال الأسابيع الأخيرة. في الشرقية، على سبيل المثال، تم ضبط شخص داخل مركز علاج طبيعي ينتحل صفة طبيب تخاطب. وفي كفر الزيات بالغربية تمكنت إدارة العلاج الحر من ضبط منتحل صفة طبيب ينصب ويكشف على المرضى في جمعية خيرية بإحدى قرى المركز.
قد تسأل كيف يتأتَّى لشخص أن يخدع مرضاه وكل من حوله طيلة هذه السنوات دون أن يتنبه أحد إلى أنه «طبيب مزيف»؟ أجيبك ببساطة «إنه السعر».
طالب الخدمة -أي خدمة- في مصر لا يهمه الجودة قدر ما يعتني بالسعر. طبيب النساء كشفه «حنيّن»، لا يزيد عن 50 جنيهاً، وتكلفة الولادة الطبيعية أو القيصرية لديه منخفضة قياساً إلى أرقام أخرى متوسطة وفلكية مؤكد أننا جميعاً نسمع عنها.
ليس على بسطاء المصريين لوم إذا بحثوا عن السعر الأقل، فما باليد حيلة، والمواطن البسيط يدرك بفطرته أن مسألة الجودة لم يعد لها وجود يُذكر. فالأخطاء في الطب واردة بالنسبة لأعتى عتاة المهنة، والإهمال -من بعض المتعلمين المتخصصين- داخل بعض المستشفيات الحكومية قد يؤدي إلى كوارث مثيلة للكوارث التي يقع فيها المنتحلون للصفة.
غياب القيمة على المستوى العام يُفقد المجموع الطلب عليها ليصبح جُل همهم التركيز فيما له قيمة، وبالتالي فغياب الجودة عن العديد من المجالات جعل تفكير بعض الناس ينصرف إلى السعر الذي يدفعونه، لأن العملة أصبحت هي الحامل للقيمة الأكبر التي يشتد الطلب عليها.
سوق الطب في مصر شأنها شأن كل الأسواق، فيها الجيد والرديء، وفيها الحقيقي والمزيف.
هناك أطباء كثر لا يتاجرون بالمهنة، ولا يمنحون المدعين أو المنتحلين فرصة للوجود، من خلال الحرص على تقديم الخدمة بسعر مناسب للمجموع، لا يهمهم الثراء أو مراكمة المال قدر ما يهمهم تخفيف آلام من حولهم، وكلنا يذكر الراحل الدكتور «محمد مشالي» طبيب الغلابة.
لكن في المقابل يوجد أطباء آخرون لا يختلفون كثيراً عن المنتحلين. فالهمّ الأكبر لهؤلاء هو التنسيق مع شركات الأدوية وكتابة الروشتة تبعاً لتوجيهاتها، دون التفات إلى جودة أو جدوى الدواء في علاج الحالة، فالمهم هو السعر الذي يحقق أرباحاً فلكية للشركة المنتجة، وللطبيب كاتب الروشتة نصيب فيها، يأخذ شكل النفحات المالية والهدايا العينية والسفر والرحلات له ولأفراد أسرته وغير ذلك.
الكل يعلم أيضاً أن طب العيادة الذي كان يعتمد على شطارة الطبيب في الفحص الإكلينيكي أصبح لا يهتم به إلا الندرة من الأطباء، فمعامل التحليل والأشعات لا بد أن تعمل وتكسب وتحصد، وللطبيب الذي يرسل المريض إليها نصيب معلوم من الربح، بغضّ النظر عن احتياج أو عدم احتياج الحالة إلى هذا المستوى من الفحص.
ظهور الأطباء المزيفين لا يرتبط فقط -للإنصاف- بإشكالية «الجودة/السعر»، فالثقافة العامة لا تزال تدعم مؤسسة «الطب الشعبي»، وإلا بماذا نفسر استمرار الاعتماد على «الوصفات البلدي» والتداوي غير المنضبط بالأعشاب، بالإضافة إلى الأحجبة والرقي وغيرها في التعامل مع المرضى على مستوى الوقاية أو العلاج؟