ما زال للعرب «جامعة» سياسية من المفترض أن تنطق باسمهم، وما زال لهم عشرات المنظمات المتخصّصة التى تُعنى بشئونهم والدفاع عن مصالحهم، كما أنهم لم يُبدّلوا علناً انتماءهم الواحد، ولم يتوقفوا عن تعظيم قيمة مشتركاتهم الرئيسية، سواء كانت ديناً أو لغة أو جغرافيا أو تاريخاً، لكنهم مع ذلك لا يمتلكون قوة عسكرية مشتركة، ولا ينخرطون فى تحالف استراتيجى قومى مدروس.
فى مارس من عام 2015، انطلقت دعوة الرئيس عبدالفتاح السيسى لإنشاء قوة عسكرية عربية مشتركة، وبعد ذلك بشهرين تم إقرار آليات إنشاء تلك القوة، بعدما قطع رؤساء أركان الجيوش العربية شوطاً كبيراً فى مناقشة تفاصيل إنشائها، وتحديد مهامها، وتقدير موازنتها المالية، واقتراح تشكيلها وهيكلها التنظيمى.
لكن مشروع إنشاء تلك القوة لم يرَ النور حتى الآن، رغم مرور نحو ستة أعوام منذ إرساء آليات تشكيلها، ورغم تزايد المخاطر الأمنية والاستراتيجية التى تحيق بالدول العربية، وتزايد الحاجة إلى ضبط توازن القوى فى المنطقة، بشكل يُعزّز المصالح الاستراتيجية للنظام الإقليمى العربى.
سيرى كثيرون أن المنطقة تعرف انقساماً بين دولها، وبعضها ربما ينخرط فى معاداة البعض، وأن الرؤى والتوجّهات وتشخيص التهديدات تختلف من بلد إلى آخر، كما أن بعض الدول العربية يجتمع فى تحالفات مع دول غير عربية لتحقيق مصالح محدّدة، وكل هذا يُحد من فرص إنشاء قوة عربية مشتركة.
والشاهد أن المنطقة العربية تعرف بالفعل عدداً من التحالفات فى هذه الآونة، وهو الأمر الذى يُعبّر بوضوح عن حالة من حالات الخلل فى توازن القوى، وزيادة الطلب على الأمن، فى ظل استفحال التهديدات، لكن هذه التحالفات ليست جامعة بالمعنى القومى، وليست راسخة بالمعنى الاستراتيجى، ولا تنهض على حد ملائم من التوافق ووضوح الأهداف بالشكل الذى يُعزّز الفاعلية والاستدامة.
فى الأسبوع الماضى، انطلقت دعوة جديدة لتشكيل «ناتو شرق أوسطى»، فى صورة مقال كتبه «رونالد لاودر»، وهو رجل أعمال، ودبلوماسى سابق، ورئيس متحف الفن الحديث فى نيويورك، وهو أيضاً رئيس المؤتمر اليهودى العالمى.
يقول «لاودر» إنه استمع إلى قادة عرب كثيرين فى الآونة الأخيرة، وإن جلهم يُجمع على أن التحدى الرئيسى الذى يواجه بلدانهم راهناً يتجسّد فى إيران، وإنهم يعتقدون أن أفضل حليف لهم وأكثرهم موثوقية فى مواجهة هذا التهديد ليس سوى إسرائيل.
ويضيف «لاودر»، الذى ينتمى إلى الحزب الجمهورى الأمريكى، ويُعرف بعلاقاته القوية بحزب «ليكود» الإسرائيلى، أن قادة الدولة العبرية يعتقدون أيضاً أن إيران تمثل أكبر تهديد فى المنطقة، وأنهم يثقون فى أصدقائهم العرب كحلفاء فى مواجهة هذا التهديد.
وبعدما استعرض «لاودر» التطورات المذهلة الأخيرة فى ملف العلاقات الإسرائيلية - العربية، وعدّد أسماء الدول التى باتت تربطها علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل، وتلك التى تطور معها علاقات وثيقة فى غير العلن، رأى أن الأوضاع باتت ناضجة تماماً لإعلان هذا التحالف، الذى يجب أن يكون بمنزلة «ناتو شرق أوسطى»، وأن ينصرف جل جهده لمواجهة التهديد الإيرانى.
يحفل التاريخ العربى الحديث والمعاصر بتجارب تحالف عسكرية كثيرة، ورغم أن بعض هذه التجارب لم ينجح فى استكمال الأسباب أو إدراك الغايات، فإن بعضها الآخر يتسم بالنجاعة والفاعلية.
بدأت هذه التجارب فى 1948، مع استفحال خطر العصابات الصهيونية فى فلسطين، ثم جاءت فترة 1967 - 1973، حين أظهر العرب قدرة على الالتئام لتحقيق هدف قومى واضح، وهى تجربة كُلّلت بالنجاح، قبل أن ينخرط عرب فى تحالف دولى كان هدفه إخراج العراق من الكويت.
ومع اندلاع الانتفاضات العربية فى مطلع العقد الحالى، زادت حدة التدخّلات الأجنبية والإقليمية، ونشأت أوضاع أقرب إلى الفوضى، وتعمّقت هشاشة الدول والمجتمعات التى ضربتها الانتفاضات، مما أنتج حالة من عدم توازن القوى، وهى الحالة التى أغرت الفاعلين السياسيين بتعظيم مصالحهم ولعب أدوار أوسع وأكثر تأثيراً.
وفى مارس من عام 2015، نجحت المملكة العربية السعودية فى تدشين تحالف عربى تحت اسم «عاصفة الحزم»، اعتمد على مشاركة فعّالة من جانب دولة الإمارات العربية المتحدة، وتسع دول أخرى، ضد جماعة «أنصار الله» (الحوثيين)، وأنصار الرئيس اليمنى السابق على عبدالله صالح.
ولقد أنجز هذا التحالف نجاحات عسكرية، أدت إلى تغيير موازين الصراع السياسى على السلطة، قبل أن يتم إنهاء العملية، لتدشين عملية جديدة تحت اسم «إعادة الأمل».
وإضافة إلى تلك التحالفات التى تتفاعل فى المنطقة، تم الإعلان أيضاً عن تدشين تحالف إسلامى ضد الإرهاب، فى ديسمبر من عام 2015، وهو التحالف الذى حظى بإعلان 35 دولة إسلامية انضمامها له، إضافة إلى تأييد عشر دول إسلامية أخرى، لكن هذا التحالف لم تظهر مفاعيله واضحة حتى الآن.
يتّضح من استعراض تجارب تلك التحالفات أنها حققت نتائج متباينة، لكنها لم تنطوِ على توافق عربى عام، ولم يُرسّخ وجودها بالمواثيق والمؤسسات حتى يستمر عملها وأثرها.
ولهذه الأسباب، تنشأ ضرورة حيوية لإحياء وتفعيل فكرة إنشاء القوة العسكرية العربية المشتركة.
إن دول الخليج العربية، خصوصاً السعودية، والإمارات، والكويت، والبحرين، تربطها علاقات استراتيجية قوية مع مصر، وتلك الدول مجتمعة تمتلك القدرات البشرية واللوجيستية والتسليحية والمادية الكافية لتكون نواة القوة العسكرية العربية الصلبة.
وبموازاة ذلك سيمكن الاستفادة من القدرات الموجودة لدى القوات المسلحة فى كل من بعض دول المشرق وشمال أفريقيا، والتى تربطها ببقية الدول المشار إليها روابط قوية على الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية، والتى تشارك تلك الدول أيضاً الموقف ذاته إزاء التهديدات التى تنشط فى المنطقة.
سيُمكن لتحالف بهذا الاتساع، وبهذه القدرة التسليحية والمالية واللوجيستية والبشرية أن يشكل قوة ضاربة قادرة على تصحيح الخلل فى توازن القوى الذى تشهده المنطقة راهناً.
وسيكون بمقدور القوة العسكرية العربية المشتركة آنذاك أن ترتب الأوضاع الأمنية المضطربة فى ليبيا أو اليمن أو سوريا أو السودان أو العراق أو لبنان، وأن تؤمّن مصالح القاهرة والخرطوم المائية، وأن تذود عن أمن دول الخليج فى مواجهة التهديد الإيرانى، وأن تصد التغول التركى، وأن تُعزّز فرص الحل العادل للقضية الفلسطينية.