فى السنوات القليلة الماضية شرعت مصر فى إعادة هيكلة الكثير من عناصر الواقع المادى، كالبنية الأساسية لا سيما الطرق والمجتمعات العشوائية وأوضاع الريف والصحة العامة، وحققت خطوات وإنجازات مهمة لا يمكن إنكارها أو تجاهلها. السؤال الرئيسى هنا هو كيف نحافظ على هذه المنجزات الكبرى والاستفادة منها بأقصى ما يمكن؟ الإجابة ببساطة وبدون تنظير مرهونة ومشروطة بتغيير الكثير من السلوكيات المجتمعية، وترقية الوعى البشرى، والربط المتزامن بين حركة البناء من جهة، وتغيير وترقية السلوك الفردى والجمعى معاً من جهة أخرى.
غياب هذا التزامن أو تجاهله أو انتظار أن يحدث من تلقاء نفسه أو التعامل معه جزئياً وبالقتارة، هو الطريق الأقصر لتخريب تلك الإنجازات وتبديد كل ما صُرف فيها وعليها فى مدى زمنى محدود. فالحجر وحده لا يكفى لصناعة نهضة، البشر هم الصانعون لها وهم المستفيدون منها.
لا يكفى هنا أن يلاحظ بعض المجتمع أهمية وقيمة ما يحدث، الأوفق والأدق والأصوب أن يكون المجتمع بكل فئاته شريكاً مباشراً فى كل الخطوات، ومسئولاً عن ديمومتها، وحامياً لإنجازاته.
فى حادثة قطارى سوهاج، أحدهما توقف فجأة والثانى القادم من الخلف اصطدم بقوة، والنتيجة موت وإصابة العشرات. الفحص المبدئى يظهر أن ثمة خطأ بشرياً جسيماً حدث ربما فى القطارين أو فى أحدهما. التحقيقات الفنية سوف تحدد المسئولية بالضبط. ليست المرة الأولى التى يشهد فيها مرفق السكك الحديدية حادثاً من هذا النوع، قد يمكن قبوله أو تبريره فى فترات سابقة شهدت تجاهلاً لهذا المرفق رغم حيويته وضرورته القصوى لحركة المجتمع ككل، ولكن يستحيل قبوله فى مرحلة التطوير وتوفير الموارد الكبيرة المطلوبة لتحسين الأداء والتى تحدث بالفعل. وجود هذه الأخطاء البشرية يعنى أن شقاً مهماً من عملية التطوير ما زال غائباً. مرة ثانية يثبت ويتأكد أن التطوير المادى وحده رغم أهميته لا يكفى. القائمون على التشغيل لا بد أن ينالهم أيضاً تغيير سلوكى يوازى حجم التغيير المادى الملموس فى القطارات والعربات.
بيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء المنشورة حتى العام 2018 تعطينا مؤشرات مقلقة للغاية. عام 2018 وحده شهد 2044 حادثة مختلفة المستويات، العام السابق له شهد 1793 حادثة، وقبله شهد 1249 حادثة. بعضها نتيجة أعطال بسبب غياب الصيانة أو عدم توافر قطع الغيار الضرورية، والبعض الآخر نتج عن أخطاء بشرية ما بين عادية وجسيمة. فى كل الأحوال هناك حاجة ملحة لوضع العنصر البشرى فى صلب خطة التطوير.
تغيير المجتمع، أى البشر شق أساسى من التطوير العام. والظواهر التى تشد إلى الخلف كالفساد الإدارى وما يوصف بالفساد الصغير، أى فساد صغار الموظفين الذين يؤدون وظائف تمس مصالح كل فرد فى المجتمع، كما يحدث تحديداً فى الإدارات المحلية، بحاجة إلى نظرة خاصة، وإلى وقفة صارمة تضع الأمور فى نصابها الطبيعى.
أسابيع قليلة هى الفارق بين حريق إحدى العمارات المخالفة الذى أدى إلى تدمير أساساتها، وبالتالى هدمها عمداً من قبل السلطات حفاظاً على حياة السكان والجيران، وبين سقوط عقار فى منطقة جسر السويس نتيجة قيام أحد الشاغلين بهدم عدد من الأعمدة الحاملة، بغرض توسيع المصنع غير المرخص والموجود فى الدور الأرضى. العقار الأول فى الجيزة فى منطقة الطوابق المليئة بالعمارات المخالفة، والثانى فى شمال القاهرة وهو أيضاً عقار مخالف. المخالفتان تمتا على مرأى ومسمع من الإدارات المحلية فى المنطقتين اللتين تبعدان عن بعضهما أكثر من 30 كم. الدلالة البارزة والتى لا خلاف عليها أن الفساد منتشر فى المحليات بغض النظر عن الموقع والمحافظة. الأكثر من ذلك أن الذين تعاملوا مع مالك العقار لغرض السكنى كانوا يعلمون بأنه عقار مخالف، ومع ذلك قبلوا العيش فيه، وحين تقرر هدمه صبوا اللعنات على السلطات التى أرادت حماية حياتهم وحاجياتهم!.
فى حالة عقار منطقة جسر السويس، شاهد الجميع، سكاناً ومسئولى المحليات وعمال المصنع ومقاول الهدم جميعاً، عملية هدم الأعمدة الحاملة، التى بدونها لا تقوم قائمة للبناء ككل، ولم يتحرك أحد. قبل شهرين حدث حريق فى المصنع المخالف، ولم يتحرك أحد. شىء مذهل أن يتعايش المرء مع الخطر الجسيم الذى حتما سيودى به. مسئولو المحليات فى منطقة العقار إن عرفوا بالأمر وتجاهلوه فتلك مصيبة، وإن لم يعرفوا فتلك مصيبة أعظم. هل هو غياب الضمير المهنى أو غياب المعرفة أو اللا مبالاة أو التجاهل المتعمد مقابل مصلحة ما، أو كل ذلك معاً؟ لنترك الإجابة لحدس القارئ.
وجود الفساد وانتشاره فى الإدارات المحلية المسئولة عن إصدار تراخيص البناء ومراقبته حين التنفيذ على الأرض بات أمراً شائعاً لا خلاف عليه بين المواطنين وكبار المسئولين، ومع ذلك تبدو عمليات المحاسبة والعقاب المنصوص عليه فى القانون واللوائح غائبة تماماً. وإن طبقت ففى أقل الحدود ووفق شروط خاصة، أهمها حدوث كارثة تفرض نفسها على الجميع، وتدفع إلى نوع من الحركة الرسمية.
الكارثة نفسها تثير المشاعر الشعبية وقت حدوثها ثم تختفى آثارها وكأن شيئاً لم يحدث، وإن حدث نوع من المحاسبة فلا يعرف أحد ما الذى حدث بالضبط ومن عوقب ومن أفلت من العقاب.
حالة التعايش المجتمعى مع هذا النوع من الفساد جعل الأمر بحكم التواتر جزءاً طبيعياً من المشهد العام، لا يساعد على تطويق الظاهرة بل يوفر لها مزيداً من الأوكسجين والاستمرار. الفساد بهذا الشكل هو نتاج طبيعى لغياب الرقابة والمتابعة للمسئولين فى الإدارات المحلية، ولتجاهل المحاسبة أولاً بأول. وما دام أمر المواجهة الشاملة لم يُحسم بعد فمن غير المستبعد أن نرى بين فترة وأخرى حوادث من هذا القبيل المحزن.
خلاصة الأمر؛ هذه الأحداث الدامية وغيرها تتطلب الكثير من إرادة المجتمع ككل لتصحيح المسار. المسئولون بحاجة لثورة فى الإدارة، والمجتمع بكل تكويناته بحاجة إلى التخلى عن قبول الفساد والتعايش معه وتوظيفه للحصول على مصالح صغيرة بغير وجه حق. جوهر الأمر فى حالتى المسئول أو المواطن العادى هو ترقية الوعى المجتمعى بالثمن الفادح لتفشى الفساد فى الإدارات المختلفة المحلية وفى المرافق الحيوية، ولشيوع حالة من اللامبالاة العامة، ولغياب المواجهة.