لفترة طويلة كانت إسرائيل فى كل هجماتها على أهداف تعتبرها معادية تلتزم بسياسة الغموض البنّاء، وهى سياسة تمزج بين إشارات مختلطة توحى بتنفيذ الهجوم، وفى الآن نفسه تلتزم المؤسسات الرسمية الصمت المريب دون نفى أو تأكيد.
وقبل نحو عامين تخلّت إسرائيل عن هذه السياسة، وصارت تعلن المسئولية عن هجمات وأعمال تجسس واختراقات أمنية للدول التى تعتبرها معادية، وتجلى التحول حين أعلن نتنياهو، وهو رئيس الوزراء، مسئولية بلاده عن أكثر من 200 هجوم على سوريا بحجة ملاحقة مراكز الوجود والمقرات التابعة لإيران فى الأرض السورية، ثم أصبح الأمر أقرب إلى الإعلان الدورى، فبعد كل هجوم يتم الإعلان عن مسئولية إسرائيل، والإشادة بتحقيق الهدف المعلن، وهو منع إيران من ترسيخ وجودها على الأراضى السورية.
فى إطار التحول من الغموض إلى التصريح بالمسئولية المباشرة، تم ربط الأمر بأهداف استراتيجية محدّدة تعتبرها المصادر الإسرائيلية أهدافاً عليا لا يمكن التخلى عنها، وتتعلق بوجود إسرائيل ذاته وتؤمن بها كل القوى السياسية رغم اختلافاتها تجاه قضايا أخرى.
من أهم هذه الأهداف هو العمل على منع إيران من صنع أسلحة نووية، نظراً لما يعنيه هذا الأمر حال حدوثه من تغيير كبير فى منظومة الأمن فى عموم المشرق العربى والخليج. وهو تغيير إن حدث سيمثل وفقاً لقناعات حكام تل أبيب تهديداً مباشراً لإسرائيل ووجودها.
وبالنسبة لهذه النوعية من الأهداف التى تمتزج فيها المواقف الأيديولوجية والمصالح المباشرة ومشاعر اللايقين إزاء المستقبل، تصبح الإجراءات حادة لا تبالى بأى مخاطر محتملة، أو أى اعتراضات دولية. وهو ما نراه فى السياسة الإسرائيلية تجاه القدرات النووية الإيرانية. ولا يهم إسرائيل هنا أن يكون هناك برنامج نووى إيرانى لأغراض سلمية كما تصر على ذلك طهران، وإنما اجتثاث هذه القدرات النووية وتحويلها إلى ركام.
بالطبع فإن القضاء على القدرات النووية الإيرانية، وهى المنتشرة على مساحة واسعة من البلاد، وتتوزع على أكثر من 15 منشأة، وآلاف المعامل البحثية المنتشرة فى مواقع غير معروفة، يُعد شبه مستحيل. فأى هجمات جوية لن تستطيع القيام بتلك المهمة إلا فى حالة استخدام قنابل نووية ومشاركة أمريكية مباشرة، وهو الأمر الذى يتعذّر حدوثه لاعتبارات تتعلق بمصالح أمريكا فى منطقة الخليج وما حولها، خاصة أن بعض المنشآت النووية بُنى تحت الأرض وفى أعماق كبيرة، وفقاً لتحليلات الصور المأخوذة بواسطة كاميرات دقيقة للغاية مثبّتة فى عدد من الأقمار الاصطناعية، منها الأمريكى والروسى وأيضاً الإسرائيلى وجنسيات أخرى عديدة.
عدم التحمس الأمريكى للقيام بعمل عسكرى كبير ضد إيران، يمثل بالنسبة لإسرائيل إحباطاً كبيراً، كما أن سياسة الرئيس بايدن فى السعى نحو إحياء الاتفاق الدولى بشأن البرنامج النووى الإيرانى عبر المفاوضات يرفع قدر الإحباط الإسرائيلى إلى الحد الذى يدفع إلى العمل المنفرد ضد المنشآت الإيرانية، ولكن فى حدود تقييد الانزلاق إلى حرب موسّعة.
من هنا أصبح العمل الإسرائيلى مرتبطاً بالأساس بتعطيل دورة التخصيب النووى، التى تجرى فى منشأة نطنز، وهى الحلقة الأقوى فى القدرات النووية الإيرانية، حيث يتم فيها تخصيب اليورانيوم إلى مستويات أعلى من 19 فى المائة، وهى النسبة الأكبر للاستخدامات المدنية، وفى الآن نفسه تشكل خطوة رئيسية نحو تطوير دورة التخصيب ليرتفع إلى نسب أعلى تسمح بإنتاج قنابل نووية تكتيكية واستراتيجية على السواء.
طبيعة موقع نطنز فى وسط الصحراء وعلى أعماق كبيرة تحت سطح البحر، تجعل أى استهداف عسكرى مسألة فاشلة حتى قبل أن تحدث. من هناك جاء التحول إلى استراتيجية التعطيل والتخريب عن بُعد أو بواسطة أفراد يتم زرعهم فى الموقع يقومون بعملية تخريبية دقيقة يترتب عليها إما تدمير كامل أو تخريب عميق يعطل البرنامج النووى لفترات طويلة.
فى كلا المستويين هناك قدرة على الاختراق فى الداخل الإيرانى، إما عبر هجمات سيبرانية تخترق نظم الأمان للمعدات والأجهزة وشبكات الكهرباء، وتحدث تعطيلاً كلياً أو جزئياً، ولكنه مؤثر بقوة، وإما من خلال عملاء من داخل الموقع ذاته، يقومون بزرع المتفجرات والقنابل فى أماكن ومواضع رئيسية، مما يجعل تفجيرها له تأثيرات كبيرة ومهمة.
الاختراقات الإسرائيلية باتت معروفة، والتنديد الإيرانى والتهديد بالرد أصبح متكرراً، ولكنه إن حدث فلن يكون بنفس مستوى حدوث الاختراق العدائى. هذا المشهد تكرر مرات عدة فى العامين الماضيين، أبرزها حين تمت سرقة وثائق سرية بكميات كبيرة تتعلق بالبرنامج النووى من داخل إيران وتهريبها إلى إسرائيل، وهو ما أعلنه نتنياهو باعتباره نصراً كبيراً سيسهم فى القضاء على القدرات النووية الإيرانية.
والمرجّح أن هذه الوثائق وفرت لإسرائيل كمّاً كبيراً من المعلومات عن المنشآت النووية الإيرانية، تم توظيفها لاحقاً فى القيام بهجوم مباشر، عبر زرع متفجرات فى أحد مبانى نظنز النووية فوق الأرض فى الثانى من يوليو 2020، كانت تضم معدات وأجهزة متقدمة تقوم بضبط أجهزة الطرد المركزى من الجيل الأول إلى الخامس، لضمان دقة أدائها. وقد أدى الانفجار إلى تدمير المبنى بشدة، وفقاً لصور الأقمار الصناعية.
الهجوم بغرض تعطيل دورة التخصيب تكرّر مرة أخرى قبل ثلاثة أيام، وفى منشأة نظنز ذاتها، وفى الجزء القائم تحت الأرض والمفترض أنه محصن بشدة. حيث عطل الهجوم دورة الكهرباء بكاملها، مما أدى إلى توقف أجهزة الطرد المركزى.
ووفقاً للبيانات الإيرانية فإن الحادث عرضى وسيتم تجاوزه سريعاً، وبالنسبة للتصريحات الإسرائيلية فنحن أمام عملية استخباراتية كبرى من شأنها أن تعطل قدرات التخصيب الإيرانية لمدة لا تقل عن تسعة أشهر. الهجوم يعكس تفضيل إسرائيل زرع العملاء والهجمات السيبرانية، تجنّبا لمعارك عسكرية كبرى، فى الآن نفسه التأثير السلبى على سياسة بايدن الساعية إلى إحياء اتفاق 2015 للبرنامج النووى الإيرانى.
من الناحية الزمنية، حيث التداخل بين اتجاه واشنطن للتفاوض مع إيران، والهجوم الإسرائيلى المُخرب لقدرات نووية إيرانية، تجد طهران نفسها بين فكى الرحى، إذ يتعذّر أن ترد على إسرائيل، تحسباً لردود الفعل الأمريكية، فى وقت تجتهد فيه إيران لدفع إدارة بايدن لرفع العقوبات. وأياً كان المسمى لما جرى فى منشأة نطنز النووية تحت الأرض، فالنتيجة البارزة تتعلق بحالة تراجع إيرانية فى مجال الحفاظ على المنشآت النووية، وهو تراجع مخيف، إذ لا يضمن أحد أن تحدث حالة اختراق أخرى قد تؤدى إلى نشر إشعاعات نووية فى إيران ومحيطها الإقليمى.