مرحلة الأربعينات كان لها ما يميزها أيضاً فى حياة المصريين، فقد سقط فى حجرها العديد من نتائج الأحداث التى شهدتها مصر خلال العقود الأولى من القرن العشرين.
كانت تفاعلات ثورة 1919 بما ترتب عليها من نتائج، وكذلك تفاعلات التعليم العام والجامعى بما أثمر عنه من تحولات قد بدأت تؤتى أُكلها فى حياة المصريين، فتجد أسرة مثل أسرة السيد أحمد عبدالجواد فى فيلم «السكرية» قد تبدل حالها، فشاخ «سى السيد» وركن فى البيت وباتت ليالى الأنس والفرفشة فى عوامة «السلطانة زبيدة» مجرد ذكرى تثير فى القلب حسرة على ما يفعله الزمن بالبشر.
أبرز فيلم «السكرية» التحولات التى ضربت بر مصر خلال فترة الأربعينات، وأبرزها الهزة العنيفة التى تعرض لها حزب الوفد بعد حادثة 28 فبراير 1942، عندما تولى النحاس باشا رئاسة الحكومة على حراب الإنجليز الذين حاصروا قصر عابدين وأجبروا فاروق على الموافقة.
اهتزاز الوفد رج الشارع السياسى بأكمله، فدخل فيما يشبه الفوضى، وتعاركت فيه قوى سياسية جديدة تنافست فيما بينها على وراثة «شعبية الوفد» التى بدأت فى التراجع. وكانت لهذه التحولات انعكاساتها على أسرة السيد أحمد عبدالجواد.
فها هو «رضوان» ابن ياسين يدخل فى أضابير الحكومة ويصبح مدير مكتب الوزير لمجرد ما يتمتع به من جمال استطابه أحد رموز السياسة المصرية. عندما يذهب إليه خاله كمال عبدالجواد الذى يعمل «خوجة» بإحدى مدارس الميرى ليتشفع له حتى لا يتم نقله من القاهرة يطمئنه «رضوان» قائلاً إن «الوزارة فى يده» فيرد عليه الخال: «كده أنا مطمن.. مطمن أوى.. حاجة تطمن فعلاً!».
أما ابنا خديجة، فقد وجد أحدهما طريقه فى الحركة الشيوعية النامية حينذاك، ووجد الآخر سكّته مع جماعة الإخوان لتجمع الأسرة بين نقيضين.
وظلت الأقدار تضرب بمعولها فى حياة «عيشة» فبعد وفاة ابنيها وزوجها بالتيفود منذ سنوات، ماتت ابنتها الأثيرة «نعيمة» وهى تلد طفلاً بعد زواجها من ابن شقيقتها خديجة، وبعدها توفى السيد أحمد عبدالجواد، عقب ساعات قليلة من غارة من غارات الحرب العالمية الثانية اضطرته إلى الهرولة إلى المخبأ وهو الذى لم يكن يتحرك من السرير بسبب اعتلال صحته، ليعود من المخبأ مستعداً للقاء ربه.
فيلم «السكرية» عكس حالة الحيرة التى ضربت الشارع المصرى فى الأربعينات، وتأرجحه ما بين اتجاهات سياسية شديدة التنافر والتناقض. لم يعد هناك مصريان متفقان على شىء. الكل فى شجار واختلاف، والأجواء ملبدة بالغيوم، ولم يعد هناك كبير يستطيع أن يجمع هذا الشتات تحت رايته.
فكما اعتل السيد أحمد عبدالجواد الذى كان يجمع شتات أسرته تحت راية طاعته، اعتل حزب الوفد الذى كان يوحّد المصريين تحت راية محبته والإيمان بتعبيره عن مبادئ ثورة 1919.
وفى حالات الفوضى يكثر المغامرون وتعلو قيمة الصغار، تماماً مثلما علا قدر فؤاد ابن «الحمزاوى» الذى لم يكن أكثر من عامل فى وكالة السيد أحمد عبدالجواد.
وجد «السيد» ابن مستخدمه يجلس أمامه فى يوم وهو يضع ساقاً على ساق ويحدثه من أرنبة أنفه.. كيف لا يفعل وقد أصبح وكيل نيابة، وداخله إحساس بأنه بات جزءاً من هيئة الحكم؟. بالأمس كان ينظر إلى السيد أحمد عبدالجواد الذى ينفق على تعليمه نظرة إجلال واحترام وتبجيل وخوف، أما اليوم فقد أمست الحال غير الحال، بعد أن ضربت الفوضى بمعولها فى كافة نواحى الحياة فى مصر، وأصبح المجد للمغامرين.
ترى هل اختفت معادلة «الفوضى والمغامرين» من حياة المصريين بعد مغادرة حقبة الأربعينات.. أم أعادت إنتاج وتقديم نفسها فى صور جديدة خلال الحقب التالية؟