يتطلب الحق فى الحياة، وهو الأساس فى البقاء والوجود والنشاط الإنسانى بوجه عام، الحفاظ على مستوى من الصحة العامة والفردية يسمح بمواجهة الطوارئ الطبية على نحو سريع وفاعل، يواجه الأوبئة والأمراض بكفاءة وحُسن تقدير، وبما يحمى المواطنين كل فى بلده.
تفشى فيروس كوفيد 19 أثبت أن توافر الإمكانات المجتمعية المخصصة للصحة العامة هو الأساس فى مواجهة الوباء، وهى إمكانات تجمع بين الكوادر الطبية والمشافى المتطورة والأجهزة الطبية والمراكز الصحية التى يسهل الوصول إليها والمنتشرة فى ربوع البلاد طولاً وعرضاً، إضافة إلى موارد مالية لتوفير المتطلبات من الأدوية واللقاحات على وجه السرعة، وقبل كل ذلك رؤية واضحة وعلمية من القائمين على هذا المرفق الصحى، ومدعومة بقدرات إدارية كفؤة وخطط للطوارئ، وقدرة على التصرف السريع وفقاً لتطور الضغوط الوبائية. وفى هذا السياق يظل للشفافية ومصارحة المواطنين بما يجرى على أرض الواقع دور مهم، دون تهوين أو مبالغة.
فالثقة بين الناس وبين المسئولين فى ظل مراحل التوتر والقلق على الحياة فى ظل انتشار الوباء هى عنصر لا يمكن التضحية به أو تجاهله، فالتعامل مع المواطنين بلا مبالاة، أو اللجوء لتسكين الهواجس العامة، يؤدى إلى ضرر بالغ يدفع بالمجتمع إلى التمرد على كل ما يقوله المسئولون المعنيون، وتزداد فجوة الثقة فى وقت حرج ومؤلم.
وهنا وجب التحذير من المبالغات ومن تصور أن الناس سوف يقبلون ما يطرح عليهم باعتبارهم لا حول لهم ولا قوة.لقد عانت مصر، كشأن دول العالم، من الوباء، ومرت بفترات صعود وهبوط فى أعداد الإصابات والوفيات.
وما يحدث فى الأسابيع القليلة الماضية أكد أننا دخلنا ما يعرف بالموجة الثالثة المتأثرة بالتحور فى الفيروس ذاته، ومن حالة لا مبالاة مجتمعية لدى فئات كثيرة عبرت عن نفسها فى تجاهل الإجراءات الاحترازية رغم حرص الأجهزة الرسمية على تطبيقها.
بيد أن الأمر على هذا النحو لا يفسر ارتفاع الإصابات اليومية فى مصر، والتى وصلت حسب بيانات مرصد جامعة جون هوبكنز، المخصص لرصد انتشار الفيروس عالمياً، إلى متوسط 835 حالة خلال الأيام السبعة الماضية.
ومعروف أن هذه الإحصاءات هى المعلنة رسمياً من الحكومات الوطنية، ويعرف الجميع فى مصر وفى غيرها أن تلك الإحصاءات لا تعبر عن الإجمالى الحقيقى للإصابات اليومية، والذى قد يصل إلى عشرة أضعاف ما هو معلن رسمياً.
لا سيما أن كثيرين ممن يُصابون بهذا الفيروس اللعين يفضلون تلقى العلاج فى المنازل تحت إشراف طبيب خاص، وغالباً لا يتم إبلاغ الجهات الرسمية بتلك الإصابات وهى كثيرة وفى تزايد مقلق.
وتدل حالة محافظة سوهاج التى يقول مسئولوها الصحيون إنها زادت مؤخراً بدرجة مقلقة، وإن الوفيات ترتفع بقوة، تدل على أن هناك مخاطر كامنة فى المجتمع نابعة أساساً من قلة عملية التلقيح وما يرتبط بها من بطء شديد ومحدوية لا تليق أبداً بحجم مصر وشعبها وإمكاناتها، فضلاً عن الوعود الوردية التى أطلقت فى مراحل مبكرة منذ عام أو أكثر حول اتفاقات وتجهيزات لمصانع وخطوط إنتاج للقاحات من الصين وروسيا ومن بريطانيا، وهو ما لم يتحقق حتى الآن دون أى تفسير عن أسباب التأخير فى تنفيذ الوعود البراقة.
وللأسف الشديد تظل مصر فى حالة انتظار لما سيأتى من كميات اللقاحات المعلن عنها أسبوعاً بعد آخر، ولكنها لم تصل بعد، وحجم ما وصل بالفعل يتراوح بين مليون ومليون ومائتى ألف جرعة منها الهدايا الصينية وشحنات على سبيل العينة الطبية من لقاح أسترازينيكا البريطانى.مقارنة حالة توزيع اللقاحات فى مصر ببعض الدول المجاورة فى نطاق منطقة الشرق الأوسط تكشف عن وضع لا يليق بمصر ولا شعبها.
وحسب بيانات منظمة الصحة العالمية، فقد تم تلقيح 47% من الإسرائيليين، و27 فى المائة من المقيمين فى دولة الإمارات العربية، والمغرب أتمت تلقيح 5.7 مليون مواطن من بين 25 مليوناً مقرراً توفير اللقاح لهم، أما البحرين فقد أتمت تلقيح 33 فى المائة من عدد السكان، وقطر 14 فى المائة، وتركيا 13 فى المائة، وهى نسب كبيرة مقارنة بما تحقق فى مصر حتى اللحظة والذى يقل عن 1 فى المائة بكثير.
منظومة توزيع اللقاح فى مصر بحاجة ماسة إلى مراجعتها بكل شفافية وكل دقة. ليس معقولاً أن يفتح باب التسجيل فى نهاية فبراير الماضى، ويظل الآلاف من الذين سجلوا منذ البداية معلقين فى الهواء، رغم كونهم من كبار السن ومن ذوى الأمراض المزمنة، ويرتبط بذلك أن منظومة الشكاوى والاقتراحات والاستفسار عن التأخير سواء المرتبطة بوزارة الصحة أو رئاسة الوزراء تُعد بلا فائدة حقيقية، ولا تقدم إجابة شافية لسبب التأخير.
وعن تجربة شخصية، وفى محاولة لتنشيط التسجيل أو تغيير مكان اللقاح، جاءت استجابة وزارة الصحة فى صورة مبهمة وكأنها بيان صحفى، يروى جهود الوزارة وأنها بصدد فتح مراكز جديدة للقاح، دون أن تكون هناك أى إشارة للحالة المحددة محل الشكوى.
والأمر على هذا النحو يُفقدنا الثقة فى منظومة الشكاوى الحكومية وفى منظومة تسجيل وتوزيع اللقاح، ومهما يقال من أنها بعيدة عن أى تدخل بشرى، فإن بعض الحالات التى سجلت فى يوم وتم تلقيحها فى اليوم التالى تؤكد غير ذلك تماماً.
والشىء بالشىء يذكر، فإن إصلاح منظومة الشكاوى الحكومية بات أمراً حالاً، فإن لم يكن لدى الحكومة وأجهزتها إجابات شافية عن الحالات محل الشكوى، فالأفضل أن يتم إغلاقها تماماً، ولا داعى لإضاعة الوقت والجهد لمن يتوهمون أن شكواهم قد تجد آذاناً مصغية.
لقد حان وقت مراجعة منظومة تسجيل اللقاح مراجعة شاملة، والنظر فى أوجه الضعف التى تعتريها، والتى تميز بين فئات وأخرى، لا سيما هؤلاء الذين سارعوا بالتسجيل فى الأيام الأولى ولم يحصلوا على موعد حتى بعد مرور ستة أسابيع كاملة، وما زالوا ينتظرون الفرج، ولا يوجد لدى المواطنين العاديين أى تفسير لذلك سوى أنها منظومة غير كفؤة ولن أزيد.
وكما ذكرنا من قبل فإن الشفافية والمصارحة من قبَل المسئولين القائمين على الصحة العامة، وفى المقدمة السيدة الدكتورة وزيرة الصحة والسكان، فى شرح أسباب هذا التأخير وكيفية علاجه وتلافى أخطاء تلك المنظومة، لا تقل أهمية عن أى معايير أخرى فى أوقات الأوبئة كالتى تعيشها البلاد حالياً. وكما علمونا صغاراً، فالاعتراف بالحق فضيلة.