كلنا نتذكر ذلك الاجتماع «الفضيحة» الذى عقده المعزول محمد مرسى فى الثالث من يونيو عام 2013 -وقت سطوة جماعة الإخوان الإرهابية على الحكم فى مصر- لبحث آلية التعامل مع أزمة سد النهضة، الاجتماع كان مغلقاً وتمت إذاعته على الهواء مباشرة!، ولم يعرف المشاركون فيه ذلك إلا بعد أن قال أحدهم «علينا أن نقسم على ألا يجرى الإفصاح عما يدور فى هذا الاجتماع لوسائل الإعلام»، وذلك قبل أن ينبهه أحد الجالسين بجواره إلى أن الاجتماع يبث على الهواء مباشرة وضجت القاعة بالضحك، ومعها ضحك العالم علينا، وعلى الانسيابية المفرطة التى طرح بها الحاضرون ما تصوروها أفكاراً لامعة ورؤى غير مسبوقة للتعاطى مع الأزمة.
الاجتماع زاد الطين بلة وأعطى قوة دفع لإثيوبيا للمضى فى بناء السد، بعد كشف كل الأوراق علانية أمام العالم، وهو ما تناولته صحف عالمية تحت عناوين ساخرة من بينها «خطط مصر السرية على الهواء مباشرة».
الاجتماع الفضيحة الذى سخرنا منه جميعاً، ينعقد الآن أمامنا، حول الموضوع نفسه (سد النهضة) ونشاهده أيضاً على الهواء مباشرة، ولكن ليس عبر شاشات التليفزيونات، وإنما من خلال صفحات الـ«فيس بوك»، ويتصدره الأشاوس والأجاويد ممن يدقون طبول الحرب، ويظن كل من هؤلاء فى نفسه أنه بنضاله الافتراضى قد وصل إلى رتبة اللواء ومن حقه تعبئة الشعب المصرى لمواجهة عسكرية محتملة، وبعض هؤلاء وصل به الحال إلى وضع خطط برية وبحرية وجوية ومقترحات تفصيلية لتدمير السد.
جنرالات الـ«فيس بوك» وهم يُنعمون علينا بما تيسر من أفكارهم الضحلة لا يتفكرون لحظة فى التداعيات الكارثية التى يمكن أن يخلفها تعاملهم بخفة واستخفاف مع قضية مصيرية بهذا الحجم من الأهمية.
هؤلاء ينطبق عليهم تماماً المثل الشعبى العبقرى «هبلة ومسّكوها طبلة».. الذى نصف به، حال من يمتلك أداة من الأدوات يُفترض أن لها فائدة، ولا ينجز بها شيئاً، كمن امتلك طبلة معتقداً أنه يعزف عليها، ولا ينوب سامعيه منه إلا الجلبة والضوضاء، وصولاً لصداع الرأس. بل والوصول بأمن البلاد القومى إلى حافة الخطر فى قضية مصيرية بمثل هذا القدر من الأهمية.
هذا المَثَل الموجز يلخص حال عدد لا يستهان به من مستخدمى «فيس بوك».. لا ينالك من «بوستاتهم» وتعليقاتهم إلا القرف إلى حد الغثيان فى بعض الأحيان.
نحن أمام أنصاف متعلمين يتمادون إلى ما يعتقدون أنه تحليلهم العميق للأحداث، لا يأتيهم الإلهام إلا وهم يلبون نداء الطبيعة، ويخرجون علينا بفضلات عقولهم.
ثورة ٣٠ يونيو التى أنقذت مصر من جماعة إرهابية كان أداؤها فى ملف سد النهضة كاشفاً لقدرتها على حكم البلاد، تركت لنا من الضحلاء ما يكفى لجرنا للوراء لسنوات وسنوات، ولو ترك هؤلاء الأمور لأصحابها وهم هنا مؤسسات الدولة التى تعافت بعد وَهَن، سنصل حتماً للنتائج المرجوة من هذا الصراع الذى لا يجب أن نراه عسكرياً فقط بالضرورة.
للكاتب الراحل جلال عامر مقولة ساخرة كتبها قبل سنوات «لما حد يسألك مصر رايحة على فين؟.. قول له اسأل قبل ما تركب».
الآن لو سألنى واحد السؤال نفسه.. سأجيب: اركب وأنت مطمئن، وسيبك من جنرالات الـ«فيس بوك».