يحدث فى المغرب العربى شىء مشابه تماماً لما يحدث فى المشرق بخصوص التصادم الأزلى بين مفهومى «حرية الضمير والحق فى التعبير عن الرأى» من جانب، و«احترام الأديان ومشاعر معتنقيها» من جانب آخر.
وبسبب هذا التصادم تقع الحوادث الجسام، التى تقود بعضاً من الذين «يعبرون عن آرائهم» إلى السجن أو الجلد أو القتل أو نقض الاعتبار.
لا يقتصر هذا الأمر بطبيعة الحال على بلداننا العربية أو دول الشرق عموماً، بل إن الغرب أيضاً يشهد سيلاً منهمراً من تلك الحوادث، التى لا تقل فى ضراوتها عما يحدث فى منطقتنا، وليس حادث ذبح المدرس الفرنسى صامويل باتى أخيراً سوى شاهد على تكرار تلك المآسى، وقبل هذا الحادث بالطبع كانت المأساة الناجمة عن إعادة مجلة «شارلى إيبدو» نشر الرسوم المسيئة للرسول الكريم، عليه الصلاة والسلام، وما أدت إليه من اعتداء مسلح على مقرها ومقتل عدد من العاملين فيها.
يوم الخميس الماضى، كانت الجزائر الشقيقة على موعد مع حادث جديد فى ملف هذا الصدام؛ حين قضت إحدى المحاكم بسجن باحث متخصص ومجاز فى الفقه، ومؤلف كتابين معروفين فى الشأن الدينى، لمدة ثلاث سنوات بتهمة «الاستهزاء بالإسلام».
وكان الباحث الجزائرى سعيد جاب الخير قد نشر بحثاً استعرض فيه آراءً مثيرة للجدل بخصوص التضحية بالأغنام فى عيد الأضحى، والزواج من الفتيات اللاتى لم يبلغن، وهو الأمر الذى استنفر باحثاً آخر، وحمله إلى رفع دعوى قضائية عليه، بمساندة من سبعة محامين، لتجد المحكمة أن «جاب الخير» مذنب، وتقضى بحكمها السابق عليه.
يدافع الباحث «جاب الخير» عن نفسه معتبراً أنه باحث متخصص، ولم يفعل سوى أن عرض مرويات ووقائع ورؤى تفسيرية بخصوص الأضحية وزواج الفتيات الصغيرات، وأن ذلك هو صلب عمله، الذى يحميه الدستور والقانون فى بلاده.
بينما يدفع ناقدوه بأنه «تجاوز» و«استهزأ» و«سخر» من عقائد المسلمين ومشاعرهم، وأنه سعى إلى تقويض مفاهيم «معلومة بالضرورة» فى الدين الإسلامى، ويستندون فى دعواهم إلى مادة فى القانون الجزائرى الوطنى تقضى بمعاقبة «كل من أساء إلى الرسول أو شوه عقيدة الإسلام وتعاليمه» بالسجن من ثلاث إلى خمس سنوات.
استنفر الحكم الصادر ضد «جاب الخير» مطالبات حقوقية وإدانات مدنية ترى فى سجنه «تغولاً على حرية الرأى والتعبير»، و«مداهنة لنزعات سلفية عرفتها البلاد منذ فتح الرئيس الراحل الشاذلى بن جديد المجال لتنظيم (الإخوان) وبعض الدعاة لاحتلال المنابر الإعلامية والنفاذ إلى الجامعات».
ورأى حقوقيون أن إتاحة المجال للادعاء ضد الباحثين والكتّاب بأنهم «يستهزئون بالإسلام» إنما يفتح الباب أمام ممارسة «الحسبة»، وهو أمر يمكن أن يقوض حرية الرأى والتعبير فى البلاد، ويحول المحاكم إلى ساحة للمساجلات الدينية.
قبل عام تقريباً، شهد المغرب واقعة مماثلة حين مثل الممثل مغربى رفيق بوبكر أمام المحكمة لأنه كان بصحبة أصدقاء له فى سهرة خاصة، حين ظهر «تحت تأثير الشراب»، وتحدث عن «الوضوء باستخدام الويسكى والفودكا»، وهو الحديث الذى تم بثه عبر أحد شركاء السهر من خلال مواقع التواصل الاجتماعى، ليتلقى الممثل سيلاً من الانتقادات والاتهامات بالاعتداء على القيم الدينية والسخرية من الشعائر.
لقد سعى الممثل لاحقاً لاحتواء الأمر، وظهر فى فيديو معتذراً لمواطنيه، ومشدداً على «احترامه للشعائر الدينية»، لكن هذا الاعتذار لم يحل دون محاكمته.
وفى تونس، حدثت واقعة مشابهة فى مايو الفائت، حين طالب نشطاء بمحاكمة مدونة تدعى آمنة الشرقى لنشرها تدوينة على حسابها فى «فيس بوك» تحوى نصاً تحت عنوان «سورة (كورونا)»، يقدم محاكاة ساخرة لآيات القرآن الكريم؛ وهو منشور يتحدث عن خطورة الفيروس، ويحدد وسائل مواجهته والوقاية منه، لكن فى نسق وشكل يماثل سور النص المقدس.
والواقع أن ثمة اختلافاً كبيراً بين ما صدر عن الباحث الجزائرى جاب الخير من جانب، وبين ما صدر عن الممثل المغربى أو المدونة التونسية من جانب آخر؛ إذ يُعد ما أتى به الأول، حتى وإن اختلفنا معه، عملاً بحثياً، ينطوى على جهد معرفى، ويستخدم أدوات منهجية من أحد أصحاب التخصص، أما ما أتى به الممثل المغربى أو المدونة التونسية فليس سوى سخرية محضة لا يسندها بحث أو معرفة ولا تستخدم أدوات علمية ولا تهدف إلى تنوير.
وفى مصر، وقعت تلك المصادمات كثيراً، ونحن نذكر فى هذا الصدد سلسلة طويلة من الباحثين الجادين أمثال على عبدالرازق، وطه حسين، وفرج فودة، ونصر حامد أبوزيد، وغيرهم، وقد وجهت لهم اتهامات مماثلة، كما نذكر أيضاً وقائع أخرى صدرت عن بعض مقدمى البرامج أو الكتّاب غير المتخصصين، الذين نشروا أو أذاعوا آراءً بلا أى جهد علمى أو توثيقى، واعتبرها البعض سخرية واستهزاءً بالدين.
والشاهد أن حماية حرية الضمير وصون الحق فى التعبير عن الآراء فى المسائل التى تتعلق بالأديان مسألة حيوية، وتضمنها الدساتير الوطنية والمواثيق الحقوقية الأممية التى وقّعت عليها أغلب بلداننا العربية، لكن هذا الأمر يجب أن يتم وفق جهد علمى، ويستخدم أدوات منهجية، وينبغى ألا يتصدى له غير المتخصصين. وحين يحدث هذا، فإن جرهم إلى المحاكم، أو توقيع العقوبات السالبة للحرية بحقهم، لن يخدم الدين ولن يتسق مع حقوق الإنسان.