عجباً لأمر الجمهور الذى يصنع آلهة من عجوة.. يعبدها نهاراً ويأكلها ليلاً.
أقول ذلك بمناسبة العبارات التأديبية التى صرخ بها «مطرب المهرجانات» -هكذا يصفونه- «حمو بيكا» فى رده على من يقارنون بين دخل مطربى المهرجانات والأطباء والمهندسين.
«بيكا» رد عليهم بكلمتين فيهم الشفا: «شغلوا دماغكم».. ثم شرع يشرح المقصود بالكلمتين، دون أن يشغل دماغه فى تقديرى، لأن ما ذكره لا يدل على تشغيل دماغ.
قال «بيكا» كما نقل موقع «مصراوى»: «انت وأهلك صرفوا عليك واتعلمت وبقيت مهندس، أنا طول حياتى شقيان ومتبهدل، كنت بشقى وبتعب وبنام فى الصحرا وانتو بيتصرف عليكم وعايشين ع الفرش، ما تشغل دماغك، ولا انت عاوز تنام والفلوس تجيلك، فى مثل بيقول اللى يبص لعيشة غيره تحرم عليه عيشته».
عدم تشغيل الدماغ «البيكاوية» تجده فى حديث الشقا الذى سلق به «حمو» الناظرين له فى دخله الكبير. فهناك من يشقى ويتعب أكثر منه، ولا يحصّل سوى الفتات الذى لا يسمن ولا يغنى من جوع.
لو تجول «حمو بيكا» فى واحد من ميادين القاهرة، مثل ميدان السيدة عائشة، سيجد عمالاً جالسين على الأرصفة يسألون الله الرزق، ورزقهم فى الهد والشيل والحط، هناك باعة جائلون، منهم شباب فى مثل عمر «بيكا»، يقفون على «تروسيكل» طول اليوم يبيعون الفاكهة والخضراوات، هناك آخرون يستيقظون من الفجر ويهرولون من قراهم إلى أقرب مواصلة -تهد الحيل- ليصلوا إلى القاهرة بحثاً عن عمل.
كل هؤلاء وغيرهم يشقون ويتعبون وينهد حيلهم على مدار ساعات اليوم ولا يفوزون إلا بالقليل، ويحمدون الله تعالى على ما أعطاهم، ولا ينظرون إلى عيشة غيرهم ولا حاجة.
«بيكا» لم يشغل عقله حين ذكر أن المسألة مسألة شقا.. المسألة غير ذلك.. إنها ببساطة مسألة طلب، ذلك ما كان يجب أن يقوله صاحب المهرجانات الشهيرة لو كان عمل بالنصيحة التى صرخ بها فى وجه البصاصين له فى عيشته.
الطلب على سلعة «حمو بيكا» يفوق الطلب على غيرها.
لعلك تذكر أننى حدثتك مرة عن الطلب على العلم، وقلت لك إن الأوضاع المعيشية لأصحابه وحامليه لن تتحسن ما دام لا يوجد طلب شعبى أو رسمى على العلم.
سلعة العلم لا سوق لها، لذلك مهما شقى الطبيب أو المهندس أو المحاسب أو المدرس أو أستاذ الجامعة أو غيرهم فلن يحصدوا ما يقيم معيشتهم إلا إذا امتلكوا القدرة على «الفهلوة».
والفهلوة -كما تعلم نقيض العلم- لكنها ضرورة فى مجتمع يشتد طلبه على أصحابها. وهناك متعلمون يحققون دخولاً خيالية، بشرط أن ينسوا ما تعلموه فى الجامعات وما قرأوه فى الكتب والبحوث، ويخلعوا رداءها ويرتدوا معطف «الفهلوة».. هنالك فقط يصبح فى مكنتهم منافسة «حمو بيكا».
من حق مطرب المهرجانات أن يدافع عن سلعته التى يتعاظم الطلب عليها.. ويتفوق عدد زبائنها على زبائن أى سلعة غيرها.
ليس من حق مجتمع يبحث عن التفاهة أن يلوم المتربحين منها.
قبل أن يأسف أى شخص وهو يقارن دخله القليل قياساً إلى دخل نجوم الكرة أو الفن التافه أو المهرجانات، عليه أن يتذكر وقفته بين طوابير زبائنهم.. أو يحمد ربنا على نعمة العلم، لأن العلم قيمة فى حد ذاته لا يعادلها مال ولا جاه ولا نفوذ ولا غيره.