قبل نكسة يونيو 1967 كان الإحساس بالكارثة القادمة يلح على المصريين فيكتمونه فى قلوبهم وأكبادهم، لكن بعض الأدباء والشعراء أخذوا يلمحون بما يمتلكون من أدوات ورمزيات إلى الكارثة التى تكاد تطرق الأبواب.
فى قصيدة «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة» حكى الشاعر المبدع أمل دنقل كيف أن خرائط الواقع كانت أكبر شاهد على الهزيمة القادمة، استدعى أسطورة «زرقاء اليمامة»، المرأة ثاقبة النظر، التى كانت ترى الأحداث عن بعد، وكيف أن قومها سخروا منها واتهموا عينيها بالبوار عندما قالت لهم إن الغابة قادمة عليكم، وكان كل جندى من جنود العدو يحمل سعفة نخيل يختبئ خلفها، ولم يستفيقوا إلا على سيوف الأعداء تولغ فى دمائهم.
لم تكن السينما بعيدة عما يحدث، لكنها كانت تنتظر الفرصة، لتعالج بشكل مباشر ما حدث منذ صباح الخامس من يونيو وحتى 9 يونيو 1967 حين خرج جمال عبدالناصر معترفاً بالهزيمة ومتنحياً أمام الشعب عن رئاسة الجمهورية.
احتضنت السينما بدءاً من عام 1968 العديد من الأفكار الناقدة لبعض جوانب التجربة التى عاشتها مصر مع قيام الحركة المباركة للضباط صبيحة 23 يوليو 1952، وقد حكيت لك كيف قامت بتلك المهمة أفلام مثل أرض النفاق وشىء من الخوف وميرامار والمتمردون وغيرها، لكن المعالجة السينمائية المباشرة للنكسة جاءت عقب وفاة الرئيس جمال عبدالناصر عام 1970.
أعطى الرئيس أنور السادات الفرصة للسينما لتفتح ملفات عصر عبدالناصر، فاتجه صناعها إلى العديد من النصوص التى عالجت موضوع نكسة يونيو وحولتها إلى أفلام سينمائية.
جاء على رأس هذه النصوص رواية «الحب تحت المطر» التى كتبها نجيب محفوظ، وتصف أحداثها التفاعلات الشعبية مع موضوع النكسة والأجواء التى أحاطت بها ومقاومة المصريين لنتائجها خلال فعاليات حرب الاستنزاف، وتولى تحويل الرواية إلى عمل سينمائى المخرج المبدع حسين كمال.
تروى أحداث الفيلم قصة عدد من النماذج الإنسانية التى أطارت النكسة عقولها، ففقدت الإيمان بأى شىء.
طبيب تخرج حديثاً من كلية الطب فقد الإيمان بالوطن وقرر الهجرة، لكن اندفاعه إلى قتل مخرج سينمائى حاول التحرش بشقيقته حال دون ذلك لينتهى به الأمر إلى السجن.
شاب آخر يعمل مدرساً يعجز دخله عن الوفاء بحاجته إلى الحصول على شقة والزواج، قرر السفر للعمل فى إحدى الدول العربية، لكن صدفة غريبة تحول بينه وبين السفر حين يلتقى فى المطار بأحد المخرجين السينمائيين، فيعجبه شكله ويمنحه دور البطولة فى فيلم يعمل فيه، فتنقلب حياته رأساً على عقب، ويعمل فى التمثيل ويهيم بإحدى الممثلات ويتزوج منها، الأمر الذى يثير حقد وحنق أحد المخرجين المتيمين بعشق الممثلة الفاتنة، فيتفق مع مجموعة من البلطجية على تشويه وجه غريمه بـ«مية نار» ليضيع مستقبله الفنى.
فتاة جامعية لا يستطيع والدها تلبية احتياجاتها فتلجأ إلى بيع جسدها لأحد الأثرياء نظير الإنفاق عليها.. أما شقيقها فجندى فى الجيش يرتبط بعلاقة حب مع صديقتها. يعود من الجبهة فيتحسر على حال الشعب الذى يحاول الغرق فى الهلاوس حتى ينسى ما حدث، فى وقت يحاول هو والشباب المرابطون مثله على الجبهة استعادة الثقة بأنفسهم من خلال عمليات الاستنزاف، وينتهى به الحال إلى الإصابة فى إحدى العمليات فيفقد بصره.
الفتوة العجوز الذى هزمه الزمن فخارت قوته وأصبح عاجزاً عن إفزاع طفل، وهو الذى كان بالأمس يرعب عتاة الرجال، يعيش شاكياً عجزه الخاص، وحالة العجز العام التى ضربت المجتمع ككل.
الفيلم يصف ببراعة حالة التيه التى ضربت كل فئات المجتمع، والاتجاه إلى جلد الذات واتهامها بكل نقيصة الذى سيطر على الجميع.
إنها حالة الانكسار القديمة المتجددة التى تدهم المصريين أمام الهزائم أو الإحباطات الكبرى.