يظل الإنسان يجرى ويجرى، يحوز ويجمع ويراكم، وما أكثر ما ينسى فى لحظة شغفه بالدنيا ومعطياتها اللحظة التى سوف تأتيه حتماً كما أتت كل حى من قبله.
أذكر أننى حدثتك ذات مرة عن بطل القصة القصيرة «كم هو نصيب الإنسان من الأرض» التى كتبها «ليو تولوستوى» ظل يجرى ويجرى حتى يحوز المزيد من الأرض، كلما وضع أقدامه فوق متر طمع فى الذى يليه، وفى غمرة نهمه الذى لا ينقطع وطمعه المستطير نسى اللحظة التى يتوجب عليه العودة فيها، وعندما استفاق تذكرها استدار وأعطى ظهره للأرض وأراد العودة، كان الجرى واللهاث وراء المزيد من الأرض قد صدع كيانه فسقط صريعاً على ما لا يزيد على متر فى متر من الأرض، استقر فيه أخيراً تاركاً وراءه أرضاً بلا أول ولا آخر ظل عمره يلهث وراءها حتى أكل الطمع عمره.
تحدث البعض عن توقعهم بأن يختلف وعى الكثيرين بحقيقة «نصيب الإنسان من الأرض» وهم يواجهون فيروس كورونا.. فماذا حدث؟
لو أنك استرجعت تجربتنا الأولى مع كورونا عام 2020 فسوف تلاحظ أن بعض الناس استدعوا فى مواجهتها الكثير من القيم الطيبة النبيلة التى تليق بالروح المصرية.
التكافل كان أبرز وأجمل هذه القيم، فوجدنا البعض يمدون أيديهم إلى غيرهم ممن ضاقت عليهم الظروف بعد إجراءات الحظر والإغلاق وما اقترن بها من وقف حال.. رأينا شباباً يعرضون على جيرانهم من كبار السن قضاء حوائجهم حتى لا يجعلونهم عرضة للنزول والاحتكاك ويساعدونهم على التباعد الاجتماعى.
البعض الآخر بدأ يدرك تفاهة الدنيا وهو يرى نفسه وغيره من الأقارب والأحباب عرضة للإصابة بالفيروس، التى أدت فى أحوال إلى وفاة أحباء وأعزاء.
لكن بمرور الوقت بدأ الناس فى التعايش والتعود على وجود كورونا فى حياتهم.. والعادة أعدى أعداء الوعى الإنسانى، وهى أقوى قانون يحكم البشر، فمع تكرار التجربة هذا العام تجد أن العديد من القيم التى حكمت تعامل المصريين مع الفيروس العام الماضى بدأت تتوارى.
الشىء اللافت أن أعداد الإصابات والوفيات فى الوقت الحالى تعد أضعاف مثيلتها فى نفس التوقيت من العام الماضى، ويعنى ذلك أن الوباء بات ثقيلاً فى الموجة الحالية من موجاته، ورغم ذلك فإن الناس بدأت تتعامل مع تداعياته بخفة.
طلب الدعوات للمصابين أو الترحم على من توفاهم الله تعالى جراء الفيروس على صفحات الفيس بوك هذا العام تزيد على مثيلتها فى العام الماضى، ورغم ذلك فإن البعض يتعامل مع هذه المنشورات بدرجة أعلى من التبلد مقارنة بما كان عليه الحال خلال الموجة الأولى.
إنه التعود الذى يقتل الإحساس، ويجعل صاحبه أقل انفعالاً بما يقع لغيره، ويرسخ لديه إحساساً وهمياً بأن ما أصاب غيره يصعب أن يصيبه، وأن ما يجرى على كل البشر لا يجرى عليه.
البعض تغره الأمانى فينسى، وتسكنه العادة فيتبلد، فيظل يجرى جرى الوحوش حالماً بوضع أقدامه على المزيد من الأرض، حتى تأتيه لحظة يعلم فيها -بعد فوات الأوان- أن الدنيا كلها ما تستاهلش.. ربنا يغفر لنا ضعفنا وزلاتنا.